جامعة عين شمس تفتح باب التحويلات الإلكترونية للعام الجامعي 2025/2026    اتحاد الغرف السياحية يواصل التحقيق في حرق الأسعار    سعر ومواصفات 5 طرازات من شيرى منهم طراز كهرباء يطرح لأول مرة فى مصر    رئيس جامعة برج العرب في زيارة رسمية لوكالة الفضاء المصرية    رئيس الوزراء البريطاني: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر إذا لم توقف إسرائيل الحرب    غزل المحلة يهزم المصرية للاتصالات استعدادًا لضربة بداية الموسم الجديد    محاضرة فنية من فيريرا للاعبي الزمالك في مران اليوم    الغندور: صفقة تاريخية على وشك الانضمام للزمالك في انتقال حر    السجن 10 سنوات لعاطل قتل شابًا في الشرابية    عاجل.. ضبط المتهمة بالتشهير بفنانة والزعم باتجارها في الأعضاء البشرية    جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025 للمكفوفين.. المواعيد والتفاصيل    نهاد السيد تفوز ب"السينوغرافيا المسرحية" في جوائز الدولة التشجيعية    مراسل "إكسترا نيوز": الفوج الخامس من شاحنات المساعدات يفرغ حمولته بالجانب الفلسطيني    وزير الصحة يستقبل رئيس اتحاد الصناعات الدوائية بإيطاليا لبحث سبل تعزيز التعاون    نصائح للاستفادة من عطلات نهاية الأسبوع في أغسطس    أمين الفتوى: الشبكة ليست هدية بل جزء من المهر يرد فى هذه الحالة    أمين الفتوى: تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر ذنب يستوجب التوبة والقضاء    مبابي ينتقل لرقم الأساطير في ريال مدريد    بريطانيا: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر إذا لم تُنه إسرائيل حربها على غزة    ما حدود تدخل الأهل في اختيار شريك الحياة؟.. أمين الفتوى يجيب    التريند الحقيقي.. تحفيظ القرآن الكريم للطلاب بالمجان في كفر الشيخ (فيديو وصور)    محافظ الدقهلية يهنئ مدير الأمن الجديد عقب توليه منصبه    خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    تأجيل محاكمة المتهم بإنهاء حياة شاب بمقابر الزرزمون بالشرقية    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    "إدارة المنشآت السياحية والفندقية" برنامج دراسي جديد في جامعة الجلالة    تجديد حبس 12 متهما في مشاجرة بسبب شقة بالسلام    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    نقيب الأشراف: كلمة الرئيس بشأن غزة نداء للمجتمع الدولي لوضع حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية    نقابة الموسيقيين تكشف تفاصيل التحقيق مع محمود الليثي ورضا البحراوي |خاص    من عبق الحضارة إلى إبداع المستقبل| فعاليات تبهر الأطفال في «القومي للحضارة»    أحمد التهامي يكشف كواليس العمل مع عادل إمام ويشاركنا رحلته الفنية|خاص    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    الحوثيون يحتجزون 10 أفراد من طاقم سفينة أغرقوها قبالة سواحل اليمن كانت متجهة لميناء إيلات    هآرتس تهاجم نتنياهو: ماكرون أصاب الهدف وإسرائيل ستجد نفسها في عزلة دولية    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    لماذا يتصدر الليمون قائمة الفاكهة الأكثر صحة عالميا؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    حزب الجيل يختتم دعايته ل انتخابات مجلس الشيوخ بمؤتمر في المنصورة    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    موعد مرتبات شهر أغسطس.. جدول زيادة الأجور للمعلمين (توقيت صرف المتأخرات)    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: فصوص النصوص الصوفية (5-7) لمعاتُ العشقِ عند روزبهان ونجم الدين كُبرى

لم يمرّ أمامى اسم الصوفى البديع، العارم (روزبهان) خلال السنوات الطوال، التى عكفتُ فيها على دراسة تاريخ التصوف، وتحقيق نصوصه المخطوطة.. حتى أخذتنى خُطاى نحو تلميذه (نجم الدين كُبرى) شيخ الطريقة الكبروية، الذى نال الشهادة سنة 618 هجرية، يوم خرج إلى صحراء خوارزم، ليحارب «وحدَه» جيشَ التتار المرعب! لكى يعلِّمنا كيف نموت ميتةً مجيدة، مادمنا ميتين على كل حال .
وكان لاشتغالى وانشغالى بالشيخ نجم الدين، ومن ثَمَّ بشيخه (روزبهان المصرى) قصةٌ قديمة مشوقةٌ، رويتها فى مقدمة كتاب «فوائح الجمال وفواتح الجلال» الصادرة طبعته الأولى بمطلع التسعينيات، وطبعته الأخيرة بمطلع العام الماضى.. والقصة ملخصها ما يلى:
بدأتْ معرفتى بنجم الدين كُبْرى على مقاعد الدرس، ففى السنة الثانية من دراستى الفلسفة بآداب الإسكندرية، كنا ندرس فخر الدين الرازى (الفقيه المتكلم المفسِّر، المتوفى سنة 606 هجرية) وبينما نحن فى خضم المباحث الكلامية والفقهية العويصة، التى يثيرها الفخر الرازى بطريقته الجافة المعقدة.
أطَلَّتْ علينا فى الكتاب المقرَّر، قصةُ لقائه بالشيخ نجم الدين، والحوار الذى دار بينهما فكان كأنه النسمة الباردة فى صحراء درس الرازى.. ثم انطوت صفحاتُ الأيام، ولم أستزد من معرفتى بهذا الشيخ الذى فاض حواره مع الرازى دفئاً وصِدْقاً.
ومرت السنون، حتى جلستُ يوماً مع الصديق الروائى (جمال الغيطانى) وسألنى عن نجم الدين الكُبْرى، فأجبته بأنه واحدٌ من كبار صوفية الفرس! ولم أزد على ذلك.. قال لى إنه يودُّ معرفة المزيد عنه. ولما سألته عن الباعث، أخبرنى بأنه كان يزور الاتحاد السوفيتى (الذى كان وقتها قائماً) فنظَّموا له رحلةً جنوبية فى تلك «الجمهوريات» التى صارت تُعرف اليوم بالإسلامية، وسلكوا به فى صحراء مترامية، حتى مضت الساعات على الطريق الذى يشقُّ الرمال، وعلى مرمى البصر، رأى مسجداً.. نزل عنده، فوجده وحيداً متفرداً، ولما اقترب ، قرأ بالعربية على بابه: «هذا مقام الشيخ نجم الدين الكُبْرى، قدَّس الله روحه» وعلى جدار المقام، مكتوبٌ:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلىَ الصَّفَا أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
■ ■ ■
وحين حكى لى جمال الغيطانى ما رآه، شعرتُ بالشخص الذى كتب هذا البيت الشعرى فوق مرقد الشيخ، وكأنه قد أراد أن يقول متحسِّراً، ما معناه أن ما جرى سابقاً قد انطمس، فلم يعد أحدٌ يذكره!.. ولما ذاكرتُ، أردتُ أن أتذكر الشيخ نجم الدين، وشيوخه، وأذكِّر الناس بآثاره المطوية ونصوصه المخطوطة.. خاصةً، أننا لا نعرف الكثير عن معظم الشعراء والصوفية (الفُرس) ولا يوجد فى المكتبة العربية كتابٌ واحد عن نجم الدين كبرى.. ففتشتُ عن كتابه (فوائح الجمال) وأصدرته محقَّقاً، وصدَّرتُه بعبارة الشيخ نجم الدين «الطرق إلى الله، على عدد أنفاس البشر».. وبدأتُ دراستى عنه، بقولى:
للصوفية الفرس مكانتهم المتميزة فى تاريخ التصوف عند المسلمين، فقد شاركوا الصوفية العرب فى كتابة التاريخ الصوفى، بحيث يستحيل الفصل بين الفريقين. خاصةً أن كليْهما شرب من نبعٍ واحدٍ، هو الوحى المحمدى، وانتسب لثقافة بعينها هى الثقافة العربية الإسلامية. إلا أن الصوفية من ذوى الأصول الفارسية، لهم ذوقٌ روحىٌّ خاص! وقد اختصوا دوماً، بروحٍ مميَّزة عن روح الصوفية العرب. ففى شعر الصوفية الفرس، نرى تلك الروح المتأجِّجة، فى مقابل الروح الرصينة لدى شعراء الصوفية العرب.
وحين نقارن بين شعر جلال الدين الرومى «أعظم شعراء الصوفية الفرس» وشعر عمر بن الفارض، أشهر شعراء الصوفية العرب. نرى أشعار ابن الفارض الموشاة بفنون البلاغة، المزينة بجرس الجناس التام والناقص، الرافلة فى ألوان التشبيه والاستعارة. بينما يتدفَّق شعر الرومى عارماً، دافئاً، متألماً، ناحتاً لفظه وجماليات تعبيره، من حرارة القلب والتهاب الروح.. وحين ننظر فى شعر فريد الدين العطَّار، مقارَناً بأشعار ابن عربى (الشيخ الأكبر) نرى خيال العطَّار المحلِّق، فى مقابل رسوخ ابن عربى وصرامة منطقه.
وفى النثر الصوفى، حين نقارن بين كتابات شهاب الدين السهروردى، وهو فارسى الأصل، وكتابات الصوفى العربى، أندلسى الأصل: محمد عبد الحق بن سبعين. نرى السهروردى يكتب بيدٍ ساحرة، فيأتى فى قَصَصِه الصوفى بصور خيالية هائلة، ويرمز للمعنى البعيد باللفظ العجيب. بينما يوجز ابن سبعين ويحدُّ العبارة، ويقدُّ كلامه من الصخر المتين.
وفى طبيعة الحياة الروحية، كان الصوفية الفُرس أكثر اشتعالاً من نظرائهم العرب، وأشد احتراقاً. حتى إننى فكَّرت فى عمل كتاب عن قَتْلَى الصوفية وشهدائهم، أعنى أولئك الذين تدفَّقت رحلتهم الروحية، حتى انتهت بواقعة موتٍ عارم، أخَّاذ. فوجدتهم كلهم، من ذوى الأصول الفارسية: الحسين بن منصور الحلاج، أبو الحسين النورى، عماد الدين النسيمى، عين القضاة الهمذانى، شهاب الدين السهروردى، مجد الدين البغدادى الخوارزمى، نجم الدين كُبْرى.
■ ■ ■
كان مولد الشيخ نجم الدين كبرى، سنة 540 هجرية ببلدة خيوق (خيوة) الواقعة فى منطقة خوارزم، الواقعة اليوم بدولة أوزبكستان (أرض الأوزبك) بوسط آسيا. ونشأ الشيخ بخوارزم وحصَّل العلوم الأولى هناك. وكان فى صغره شديداً على الخصوم فى الجدل والمناظرات، حتى لقَّبوه (الطامة الكبرى) ثم حُذفت الكلمة الأولى تأدُّباً معه، بعدما أصبح شيخاً صوفياً، وبقيت الثانية. فصار اسمه المشهور به، هو : نجم الدين كُبرى.
وجاء نجم الدين من خوارزم إلى مصر، ليلتقى بشيخه الذى تعلَّم منه التصوف والعشق، وهو الشيخ روزبهان (أبو محمد روزبهان بن أبى نصر الشيرازى، المصرى، المتوفى سنة 606 هجرية) الذى كان بدوره قد جاء من شيراز إلى مصر، وظلَّ بها زمناً حتى عُرف بين معاصريه بالمصرى. ثم عاد إلى بلاده، وبقى هناك يعظ الناس خمسين سنة. حتى اعتُبر، واعتُبر قبره بعد وفاته، من مقدَّسات شيراز.. ولذلك يقول سعدى الشيرازى، فى ديوانه الشهير (بالفارسية) ما ترجمته: أستحلفك اللهم بسيرة الشيخ الأكبر وفكره/ وبحق روزبهان وبحق الصلوات الخمس/ أن تحفظ هذه المدينة العامرة بالرجال الصالحين/ من أيدى الكافرين والظالمين والغمَّازين.
■ ■ ■
وللصوفية عموماً، مسلكٌ فى (العشق) عجيب.. والعشق عندهم يعلو المحبة، ويأتى بعدها فى سُلَّم المقامات العارجة إلى الحضرة الإلهية. ومع أننا فى هذه السباعية، نُعنى أساساً باللغة الصوفية وبأساليب التعبير الصوفى، العربى، إلا أن الأحوال والحقائق (المعبَّر عنها) تظل واحدة عند الصوفية ، سواء كانوا عرباً أو أتراكاً أو فُرساً.
ومن هذا الباب، ندخل أولاً إلى الصورة الصوفية للعشق، وملامحها ولمعاتها، حسبما صوَّرها باللغة العربية، نجم الدين كُبرى فى كتابه (فوائح الجمال) ثم نقدِّم بعدها، بعضاً من عبارات روزبهان، أو بالأحرى إلماحاته وإشاراته العشقية الواردة فى كتابه (عبهر العاشقين) الذى كتبه أصلاً بالفارسية، وترجمه لنا د.قاسم غنى فى كتابه: تاريخ التصوف عند الفرس.. قال الشيخان:
■ ■ ■
وظهور الآيات فى عالم الشهادة والغيب، يُورث الإيمان والإيقان والعِرْفان. وبالعرفان تظهر الآلاءُ والنِّعم. وذلك يُورث المحبة. والمحبة تُورث الفناء، بل هو حقيقة المحبة وحاصلها. والفناءُ فناءان. فناءٌ عن الصفات فى صفات الحقَّ، وذلك هو الفناء فى «الفردانية»؛ وفناءٌ عن صفاته فى ذاته، وذلك هو الفناء فى «الوحدانية».. وإذا تجلَّت الذات (الإلهية) تجلَّت الهيبة، فيندك السَّيَّار (الصوفى) ويندق، ويكاد يقرب من الموت. ويسمع حينئذٍ :أحَدٌ، أحَد! وإذا فنى فى ذاته، بقى به (بالله) ويحيا به.
وقد يغيب السَّيَّار، فيرفعه الحقُّ إليه. فيجد ذَوْقَ الربوبية فى نفسه، وهذا الذوق يكون كطرفة العين. وهذا أسنى المقامات والكرامات، أن يذيقه الله عَزّ اسمه، ذلك الذوق. فإن السَّيَّار لايزال مع الحق سبحانه، فى عتابٍ وجدالٍ، يقول: ما الذى أوجب أن تكون رَبَّا وأكون مربوبًا؟ وتكون خالقاً وأكون مخلوقاً؟ وتكون قديمًا وأكون محدثاً؟! فيذيقه الله هذا المذاق، فيستريح من ذلك التحيُّر والعتاب.
والعارفُ واقفٌ، والمتحيِّرُ يسير.. بل العارف المطلق هو الله، وغيره مُتَعارِفٌ. ولا مقام يُنال، إلا وبعده أسنى منه. وهذا ميدانٌ فسيحٌ، لا يُدرك حَدُّه إلا بعد الهلاك، والرجوع إليه. ولا يُدرك الهلاك إلا بعد ركوب هولٍ عظيم، هو بذل الروح. كما فعل الحسين (الحلاج) فى قوله: أنا الحق! والهلاك والفناء واحدٌ، يقول (الحلاج) فى مناجاته: نَاسُوتِيَّتى اسْتُهْلِكَتْ فِى لاَهُوتِيَّتك، فَبِحَقِّ نَاسُوتِيَّتى عَلَى لاَهُوتيَّتكَ، أَنْ تَغْفِرَ لِمَنْ ابْتَغَى قَتْلِى ! والاستهلاكُ أثرُ المحبة. فأولُ المحبة طلبُ المحبوب للنفس، ثُمَّ بذلُ النفس له، ثُمَّ نسيانُ الإثنينية، ثُمَّ الفناءُ فى الوحدانية.
والعشقُ نارٌ تحرق الحشا والكبد، وتطيشُ العقل، وتُعمى البصر، وتُذهب السمع، وتُهوِّن ركوب الأهوال، وتُضيِّق الحَلْق حتى لا يعبر إلاَّ النَّفَس، وتُجمِّع الهِمَّة على المعشوق، وتُسىء الظن بالمحبوب من الغَيرة.. وتزيد، فيذهبُ النظامُ، ويدومُ الهيامُ، ويطيبُ الموتُ، ويُورَّثُ النسيانُ. ويطفئها الوصلُ، ويقلِّلها العتابُ.. ونهاياتُ المحبة بداياتُ العشق. المحبةُ للقلب، والعشقُ للروح. والسِّرُّ يجمع الأحباب، والهمةُ أثرُ الجمع.. قيل: ما نهايةُ هذا الأمر؟ قال: الرجوع إلى البداية !
وبدايةُ هذا الأمر، طلبُ الجنس للجنس، وهو نورٌ ولُطْفٌ منه. وذلك يُورث التمنِّىَ بالشهوة، والإرادةَ بالفؤاد، والمحبةَ بالقلب، والعشقَ بالروح، والوصلَ بالسِّرِّ، والتصرُّف بالهمة، والصفاءَ فى الصُّفَّة، والفناءَ فى الذات..
هكذا تحدَّث الشيخ نجم الدين كبرى.
■ ■ ■
وتحدَّث الشيخ روزبهان المصرى، فى العشق.. فقال:
العشقُ محمودٌ على أية حالٍ، سواء كان فى مقام العشق للطبيعيات، أو للروحانيات. لأن العشق الطبيعى، هو منهاج العشق الربانى. ولا يُستطاع حَمْلُ أثقال العشق الإلهى، إلا على مثل هذا المركب. كما لا يُستطاع احتساء روائق صفاء الجمال الإلهى، إلا فى أقداح أفراح الصور الحسية فالعشقُ الطبيعىُّ والعشقُ الروحانى والعشق الإلهى، جواهرُ ثلاثٌ، مستمرةٌ دوماً فى الحركة.
ولما أراد تعالى، أن يفتح كنز الذات بمفتاح الصفات، تجلَّى على أرواح العارفين بجمال العشق، وظهر بصفاتٍ خاصة. وأثَّرت الصفاتُ فيهم، والصفةُ قائمة بالذات، فأصبحت صفتهم قائمة من أثر ذلك. (ولكن) لا يوجد من «الحلول» شىءٌ فى هذا العالم، (لأن) العبدَ عبدٌ، والرَّبَّ ربٌّ.
وأصلُ العشق قديمٌ، وعُشَّاقُ الحق قدماءُ. العشقُ لبلابُ الأرض القديمة، الذى التفَّ حول روح العاشق.. العشقُ سيفٌ يقطع رأس الحدوث (المحدودية الإنسانية) من العاشق، وهو ذروةُ قاعدة الصفات (الإلهية) فما وصلتها روحُ العاشق إلا واستسلمت للعشق. وكل من صار معشوقاً للحق، وعاشقاً للحق، لا يستطيع النزول من تلك الذروة، ويصير فى العشق متَّحِداً بالعشق. وإذا اتَّحد العاشقُ والمعشوقُ، صارا بلونٍ واحد. وعندئذٍ يصبح العاشقُ، حاكماً فى إقليم الحق.
العشقُ كمالٌ من كمال الحق. فإذا اتصل العاشق، تحوَّل من الحدوث المحض. يصبح باطنه ربانيَّا، ولا يتغير من حوادث الدهور، وصروف الزمان، وتأثير المكان. فإذا بلغ عين الكمال، تزول ستائر الربوبية.. وليس فى العشق مقصودٌ (مطلب) فالعشق مع المقصود، ليس بموجود. العشقُ والمقصود، كُفْرٌ.
وليس للصورة مكانٌ فى العشق، لأن العقل والنفس ليسا معاً فى طريق العشق. فالعشق، هو الطائرُ الصاهرُ للروح.. الأمرُ والنهى، منسوخان فى طريق العشق.. والكُفر والدين حُجبا عن سراى العشق.. والآفاقُ محترقةٌ بإشراق العشق.. والكونُ مضمحلٌّ تحت حافر فرس العشق.
وجوهرةُ العشق عُجنت من الأزل.. وكُلُّ مَنْ ظهر له طريقُ العشق، يخطف جوهر أوصافه من هذه التربة.. وليس فى العشق مجوسيةٌ ولا كُفر، ولا شراسةٌ ولا بلاهة. وصِفَةُ العُشَّاق كمالُ الحيرة، والخضوعُ صِفَةُ المتيَّمين.. الجنة مأوى الزاهدين، والحضرة مَثْوى العاشقين! ليس فى العشق فجاجة، وليس فى طريقه عجزٌ ولا ضعف.
وكلُّ ما قلناه، ليس من صفة العشق والعاشق (لأن اللغة لا تقدر على بيانه) ونهايةُ العشق، بدايةُ المعرفة. والعشق فى المعرفة، مبنىٌّ على الكمال. وإذا اتحد العاشقُ بالمعشوق، بلغ مقام التوحيد. وإذا تحيَّر فى المعرفة، فقد أحرز مقام المعرفة.. وحيث إنهم (العشاق) بلغوا ذلك الحدَّ، فقد صار قلبهم ربانيًّا، وقولهم أزليًّا.. كما قال أبو سعيد الخرَّاز، رحمة الله عليه: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة، وأنباءً عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الأبدية، ويخبرون عنها بعبارات الأزلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.