معلمو الحصة فوق 45 عامًا يُطالبون بتقنين أوضاعهم وتقدير جهودهم    محافظ الأقصر يوجه بصيانة صالة الألعاب المغطاة بإسنا (صور)    بعد تراجعه 95 جنيها.. سعر الذهب يرتفع بحلول التعاملات المسائية اليوم    النيابة تعاين منازل المتضررين بسبب تسريب الصرف الصحى بسوهاج    محافظ الأقصر يشهد لقاء جماهيريا في إسنا لحل شكاوى المواطنين (صور)    مصادر: خامنئي يفوض صلاحياته للحرس الثوري ويختبئ في ملجأ تحت الأرض    وزير الخارجية يجري اتصالين هاتفيين بنظيره الإيراني ومبعوث الرئيس الأمريكي    كأس العالم للأندية.. بروسيا دورتموند 0-0 فلومينينسي    ترامب: لدينا الآن سيطرة كاملة وشاملة على الأجواء فوق إيران    بعد المطالبة بترحيلها.. طارق الشناوي يدعم هند صبري: محاولة ساذجة لاغتيالها معنويًا    الشيخ خالد الجندي يروي قصة بليغة عن مصير من ينسى الدين: "الموت لا ينتظر أحدًا"    من سرقة بنك إلى المونديال.. الحكاية الكاملة لصن داونز وملهمه يوهان كرويف    خاص ل "الفجر الرياضي" | ريال مدريد سيوقع مع هذا اللاعب عقب المونديال (مفاجأة)    الجيش الإسرائيلي: إيران أطلقت 400 صاروخ حتى الآن    التعليم العالى تعلن فتح باب التقدم للمنح المصرية الفرنسية لطلاب الدكتوراه للعام الجامعى 2026    "فوربس" تختار مجموعة طلعت مصطفى كأقوى مطور عقاري في مصر    نائب محافظ الدقهلية يتفقد الخدمات الصحية وأعمال التطوير والنظافة بمدينة جمصة    مصرع شاب في حادث دراجة بخارية بالمنيا    بحضور أسر الصحفيين.. عروض مسرح الطفل بقصر الأنفوشي تحقق إقبالًا كبيرًا    رصاصة غدر بسبب الزيت المستعمل.. حبس المتهم بقتل شريكه في الفيوم    "أكبر من حجمها".. محمد شريف يعلق على أزمة عدم مشاركة بنشرقي أمام إنتر ميامي    قرار مهم من "التعليم" بشأن سداد مصروفات الصفوف الأولى للعام الدراسي 2026    رئيسة «القومي للبحوث»: التصدي لظاهرة العنف الأسري ضرورة وطنية | فيديو    «البحوث الإسلامية»: الحفاظ على البيئة واجب شرعي وإنساني    "المدرسة البرتغالية".. نجم الزمالك السابق يطلق تصريحات قوية بشأن الصفقات الجديدة    "الحرية المصري": نخوض الانتخابات البرلمانية بكوادر على غالبية المقاعد الفردية    محافظ أسيوط يستقبل السفير الهندي لبحث سبل التعاون - صور    درة تحتفل بتكريمها من كلية إعلام الشروق    الخميس.. جمعية محبي الشيخ إمام للفنون والآداب تحتفل بالذكرى ال30 لرحيله    معهد ستوكهولم: سباق تسليح مخيف بين الدول التسع النووية    بدء الجلسة العامة للبرلمان لمناقشة الموازنة العامة    محافظ المنيا يُكرم مديرة مستشفى الرمد ويُوجه بصرف حافز إثابة للعاملين    نجاح طبي جديد: استئصال ورم ضخم أنقذ حياة فتاة بمستشفى الفيوم العام    عرض غنوة الليل والسكين والمدسوس في ختام الموسم المسرحي لقصور الثقافة بجنوب الصعيد    مهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير يواصل تألقه بعرض خاص في القاهرة    التعليم العالي: جهود مستمرة لمواجهة التصحر والجفاف بمناسبة اليوم العالمي    تأجيل محاكمة متهمين بإجبار مواطن على توقيع إيصالات أمانة بعابدين    شملت افتتاح نافورة ميدان بيرتي.. جولة ميدانية لمحافظ القاهرة لمتابعة أعمال تطوير حى السلام أول    محافظ أسوان يشيد بجهود صندوق مكافحة الإدمان فى الأنشطة الوقائية    التعليم الفلسطينية: استشهاد أكثر من 16 ألف طالب وتدمير 111 مدرسة منذ بداية العدوان    زيلينسكي: روسيا هاجمتنا بالطائرات المسيرة بكثافة خلال ساعات الليل    المرور تحرر 47 ألف مخالفة متنوعة خلال 24 ساعة    هشام ماجد يسترجع ذكريات المقالب.. وعلاقته ب أحمد فهمي ومعتز التوني    وزير الرياضة يرد على الانتقادات: دعم الأهلي والزمالك واجب وطني.. ولا تفرقة بين الأندية    محافظ المنيا: استمرار أعمال توريد القمح بتوريد 509آلاف طن منذ بدء موسم 2025    البحوث الفلكية: الخميس 26 يونيو غرة شهر المحرم وبداية العام الهجرى الجديد    دار الإفتاء: الصلاة بالقراءات الشاذة تبطلها لمخالفتها الرسم العثماني    "ليست حربنا".. تحركات بالكونجرس لمنع تدخل أمريكا فى حرب إسرائيل وإيران    CNN: ترامب يواجه ضغوطا متعارضة من إسرائيل وحركته الشعبوية    «الرعاية الصحية» تُعلن توحيد 491 بروتوكولًا علاجيًا وتنفيذ 2200 زيارة ميدانية و70 برنامج تدريب    مستشفيات الدقهلية تتوسع في الخدمات وتستقبل 328 ألف مواطن خلال شهر    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    ضبط 18 متهمًا بحوزتهم أسلحة و22 كيلو مواد مخدرة في حملة أمنية بالقاهرة    بدء التشغيل التجريبي لمستشفى طب الأسنان بجامعة قناة السويس    «أمطار في عز الحر».. الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الثلاثاء: «احذروا الشبورة»    بعد تلقيه عرضًا من الدوري الأمريكي.. وسام أبوعلى يتخذ قرارًا مفاجئًا بشأن رحيله عن الأهلي    «لازم تتحرك وتغير نبرة صوتك».. سيد عبدالحفيظ ينتقد ريبيرو بتصريحات قوية    ما هي علامات قبول فريضة الحج؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: فصوص النصوص الصوفية (4-7) براكين الرفاعى.. ووصاياه

لم تكن (الطرق الصوفية) بالمعنى الذى نعرفه اليوم، معروفةً فى مصر حتى القرن السابع الهجرى.. ومع ذلك، فما كادت شرارة هذه «الجماعات الروحية» تنقدح فى وادى النيل ودلتاه، حتى انتشرت تقاليد (الطرق) فى ديارنا، وتعمَّقتْ فى الوجدان المصرى العام.
ومن العجيب، والمدهش، أن معظم الطرق الصوفية التى استقرت بمصر طيلة القرون الثمانية الماضية، ترجع أصولها إلى المغرب والأندلس! سواءٌ كانت قد وفدت من هناك مباشرةً، أو على نحوٍ غير مباشر. فمن الطريق المباشر (المغاربى- المصرى) جاءت الطريقة الشاذلية، مع شيخها أبى الحسن الشاذلى، الذى استكمل مساره الروحىّ زوجُ ابنته: أبوالعباس المرسى «شيخ الإسكندرية» ثم توالت أجيالُ الشاذلية حتى يومنا هذا.
ومن الطريق غير المباشر (المغرب، العراق، مصر) وفدت الرفاعية والدسوقية والأحمدية.. فمن المغرب إلى العراق هاجر والد الشيخ أحمد الرفاعى، فنشأ ابنه هناك بمنطقة تسمى «البطائح» ونبغ فى مساره الروحىّ حتى صار عَلَماً من أعلام التصوف.
ومن العراق إلى مصر، أوفد الرفاعى تلميذه الشهير (الواسطىّ) الذى سكن الإسكندرية، ونشر بها طريقة الرفاعية. وبعد وفاته، أرسل مشايخ الرفاعية من العراق، صوفياً نابهاً منهم، هو (السيد البدوى) ليخلف الواسطى. وكانت ابنة الواسطىّ قد تزوجت بمصر، وأنجبت طفلاً سوف يصير بعد حينٍ شيخاً مشهوراً بمصر، هو: إبراهيم الدسوقى.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الواسطىّ (نزيل الإسكندرية) كان هو الذى نصح (الشاذلى) بلقاء الشيخ عبد السلام بن مشيش المغربى، الذى تتلمذ له أبوالحسن الشاذلى، وأخذ عنه الطريق الصوفى. وابن مشيش هو تلميذ (أبى مدين التلمسانى) الذى كان له تلميذٌ آخر مشهور هو: محيى الدين ابن عربى، الشيخ الأكبر!
إذن، باستثناء الطريقة القادرية (أتباع سيدى عبدالقادر الجيلانى) والطريقة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومى) فإن أصول الطرق الصوفية المصرية، جميعها، مغاربية! أى أندلسية ومغربية.. وهو ما يفسِّر لنا اعتقاد أهل القرى المصرية، خاصةً فى الصعيد، بأن (الولىّ) لابد أن يكون مغربياً، ليكون باهر الكرامات.
■ ■ ■
ومع أن أهل بلادنا يربطون، من الوهلة الأولى، بين الرفاعية وصيادى الثعابين! فإن طريقة (الرفاعى) لم تكن تعرف هذا الأمر، إلا من حيث سُكناها بمنطقة البطائح الواقعة بجنوب العراق، بين واسط والبصرة.
وهى منطقة تكثر فيها الثعابين، فكان الناس هناك من قبل «الرفاعى» ومن بعده، يعرفون كيف يتعاملون معها. فلما جاء أتباع الطريقة الرفاعية، توارثوا ما كان متوارَثاً فى النواحى التى جاءوا منها. فظنَّ المصريون من يومها، أن هناك ارتباطاً بين الرفاعية وصيد الثعابين.. لكننا هنا، على كل حال، لسنا بصدد التأريخ للطرق الصوفية، أو بيان أصولها التاريخية، أو رَدّ الاعتقادات الشعبية المتعلقة بها.
وإنما مرادنا، لفتُ الأنظار إلى فصوص النصوص التى كتبها الصوفية، أو تحدثوا بها، ومن هذه النصوص (الفصوص) مجالس الشيخ أحمد الرفاعى، المتوفى سنة 578 هجرية، عن ست وستين سنة، إذ كان مولده سنة 512 هجرية، بقرية (أم عبيدة) بجنوب العراق. وهى القرية التى عاش فيها، ومات، ودُفن فى قبة مشهورة صارت من بعده مركزاً للطريقة الرفاعية.
وقد جُمعت مجالس الرفاعى ووصاياه فى عدة مجاميع مخطوطة، ونُشر بعضها من دون تحقيق. وفى مكتبة الإسكندرية اليوم، مخطوطة أصلية شهيرة تضم مجالس الرفاعى (كانت أصلاً ضمن مجموعة بلدية الإسكندرية) عنوانها: كتاب البراكين! وهو عنوان لافت للنظر، وينطبق معناه على محتواه. لأن معظم كلام الإمام الرفاعى، فى مجالسه وفى وصاياه: متدفقٌ، حارٌّ، حارقٌّ. كأنه الحمم الملتهبة، التى تقذفها البراكين.
ومع ذلك، فإن معظم المخطوطات الأخرى التى ضمَّت مجالس الرفاعى ووصاياه، تحمل عنوان (كتاب البراهين) لا البراكين. وهو ما يتوافق من ناحية أخرى، مع عنوان كتابه الوحيد المحقَّق، المتداوَل: البرهان المؤيد.
وكان الرفاعى يبدأ عباراته دوماً، بقوله (أَيْ) التى تعنى (أيها) فى حالة المنادى القريب. فيقول: أَيْ سادة، أيْ أحبَّة، أيْ غلام، أَيْ أخى.. إلخ. وهو فى كلامه بليغٌ، صادقٌ، يصدق عليه ما قاله الصوفية من أن: كل كلام يخرج، وعليه رائحة القلب الذى منه خرج.
فلنقترب فيما يلى، من بعض كلام الرفاعى:
■ ■ ■
أَيْ سادة، الزهدُ أول قدم القاصدين إلى الله عزَّ وجلَّ. وأساسه التقوى، وهى خوفُ الله ورأسُ الحكمة. وجماعُ كل ذلك، حُسن متابعة إمام الأرواح والأشباح، السيد المكرَّم رسول الله. وأولُ طريق المتابعة، حُسنُ القدوة، عملا بحديث «إنما الأعمال بالنيَّات» ألا ترون أن رسول الله، قال لرجلٍ يريد الجهاد فى سبيل الله، وهو يبتغى عرض الدنيا؛ إنه: لا أجرَ له!
أَيْ أخى، أنت أحسن منى. رحمتك ذِلَّةُ التلقِّى، وأنا أخذتنى سكرةُ التعليم.. أى أخى، إن أنا غلبتُ نفسيَ المسكينة، وقلتُ لها: علَّمكِ الله وأوجب عليكِ تعليم الإخوان، لأن كاتم العلم يُلجم بلجام من نار.. قِفى عند حدِّكِ، فربما كان فيهم من هو عند الله أجلُّ منك، ولكن أخفاه عنك (الله) ليختبرك! وبعد ذلك، سكنتْ ثائرتها الكاذبة، وعرفتْ قدرها، فلها الحظ الأوفر. وكذلك أنتَ.. أى أخى إن غلبتَ نفسك وألزمتها التعلُّم، وذبحت الهوى بسكين الاقتداء، وأخذتَ الحكمة غاضَّاً طرفك عن شرفك وعلمك وحسبك وأبيك ومالك وحالك، فقد فزتَ فوزا عظيما.
أى سادة، أنا لستُ بشيخ. لستُ بمقدَّمٍ على هذا الجمع. لست بواعظٍ. لست بمعلِّم. حُشِرْتُ مع فرعون وهامان، إن خَطَرَ لى، أنى شيخٌ على أحدٍ من خلق الله. إلا أن يتغمدنى الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين.. كل الفقراء (الصوفية) ورجال هذه الطائفة، خيرٌ منى. أنا أحيمد (تصغير اسمه: أحمد) اللا شىء. أنا لا شىء اللا شىء.. الحقُّ يُقال، الصوفى مَنْ صفَّى سِرَّه من كدورات الأكوان، وما رأى لنفسه على غيره مزية. هكذا كَتَبَ الله وحَكَمَ، وهذا واللهِ خُلُق عبيده، الذين طهَّرهم من رؤية غيره.
أى أخى، أنت غيرٌ، ونفسك غيرٌ، وغيرك غيرٌ. كُلُّ ما أدركه بصرك، واختلج بشكله وكيفيته سرُّك، فهو غيرٌ. ربُّنا لا تكيِّفه الأفكار، ولا تدركه الأبصار.. إيش تريد يا صوفى، يا فقيه، يا من جمع بين الشأنين؟ تريد أن تَسُبَّ العباد وتبغى عليهم، وأن تعلو وتغلو! ما هذه واللهِ طريقة نبيِّك، ولا سُنة وليِّك.
كان (النبى) إذا نهى عن خُلُق لم يُسَمِّ فاعلَه، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو: ما بال الرجل يقول كذا.. وما أغلظ رسول الله فى مواعظه بشتمٍ وَسبٍّ، ولا صرَّح باسم أحد، ولا طار، ولا تسلَّط بقوة المعجزة على الطباع (ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضُّوا من حولك).. فإذا وعظتم الناس، إياكم والتصريح. وخذوا بالتلويح. فإن هناك رائحةَ السُّنة، وشَمَّة النفحة النبوية، وبها واللهِ يُصلح الله القلوب. أفلا نقول للذى يعجبه علوُّه على الناس، ويحبُّ انقياد الرقاب إليه: خَلِّ عنك يا مسكين! انقادتْ لك الرقاب وما انقادتْ لك القلوب، متى سقطتَ من حالك تقلبتْ عنك القلوبُ، وداستْك الأقدام، وبَقِيْتَ أَسْوَدَ الوجه.
أى سادة، تفرَّقتْ الطوائف شيعاً، وأحيمد (أحمد الرفاعى) بقى مع أهل الذُّلِّ والانكسار والمسكنة والاضطرار.. ينقلون عن الحلاج أنه قال «أنا الحق».. أخطأ بوهمه! لو كان على الحق، ما قال «أنا الحق». يذكرون له شعراً يوهم الوحدة (أى: الله والعالم شىء واحدٌ) كُلُّ ذلك ومثله، باطلٌ. ما أراه رجلاً واصلاً أبداً. ما أراه شَرِبَ. ما أراه حَضَر. ما أراه سمع إلا رنةً أو طنيناً، فأخذه الوهمُ من حالٍ إلى حال. من ازداد قرباً ولم يزدد خوفاً، فهو ممكورٌ به. إياكم والقول بهذه الأقاويل، إن هى إلا أباطيل. درج السلفُ على الحدود، بلا تجاوز. بالله عليكم، هل يتجاوز الحدَّ إلا الجاهل؟ هل يدوس عنوةً فى الجبِّ، إلا الأعمى؟ ما هذا التطاول. وذلك المتطاول، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالجوع، ساقط بالعطش، ساقطٌ بالنوم، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالوجع، ساقطٌ بالفاقة، ساقط بالهِرم، ساقطٌ بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت (لمن الملك اليوم)؟ العبد متى تجاوز حدَّه مع إخوانه، يُعَدُّ فى الحضرة ناقصاً.
التجاوزُ عَلَمُ نقصٍ، ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالدعوى، يشهد عليه بالغفلة، يشهد عليه بالزهو، يشهد عليه بالحجاب.. الولايةُ ليست بفرعونيةٍ ولا بنمرودية! قال فرعون (أنا ربكم الأعلى) وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء: «لست بملك ولا جبار، أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد».
أى سادة، ما قلتُ لكم إلا ما فعلتُه وتخلَّقتُ به. فلا حجةً لكم علىَّ. إذا رأيتم واعظاً أو قاصَّاً أو مدرِّساً، فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلا ويقولون حقاً، واطَّرحوا ما زاد. وإن أتى (الواعظ) بما لم يأتِ به رسول الله، فاضربوا به وجهه. الحذرَ، الحذرَ، من مخالفة أمر النبى العظيم. قال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره، أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم). كان العراق أخَّاذةَ المشايخ، وغيبةَ العارفين. مات القوم. (فخلف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات).
أى إخوانى، لا تخجلونى غداً بين يدى العزيز سبحانه، وقد سبقكم أصحابُ الأعمال المرضيات.. عليكم بالأدب، فإن الأدب باب الأَرَب. اللهم اجعلنا ممن ركَّبْتَ على جوارحهم من المراقبة، غلاظَ القيود. وأقمتَ على سرائرهم من المشاهدة، دقائقَ الشهود. فهجم عليهم أنسُ الرقيب، مع القيام والقعود (الصلاة) فنكَّسوا رؤوسَهم وجباهَهم للسجود، وفرشوا لفرط ذلهِّم على بابك، نواعمَ الخدود. فأعطيتهم برحمتك، غايةَ المقصود.
صحِّح اللهم فيك مرامنا، ولا تجعل فى غيرك اهتمامنا، وأَذْهِبْ من الشر ما خلفنا وأمامنا.. اللهم إنى أسألك، بالألف المعطوف، وبالنقطة التى هى مبتدأ الحروف. بباء البهاء. بتاء التأليف. بثاء الثناء. بجيم الجلالة. بحاء الحياة. بخاء الخوف. بدال الدلالة. بذال الذكر. براء الربوبية. بزاى الزلفى. بسين السناء. بشين الشكر. بصاد الصفاء. بضاد الضمير. بطاء الطاعة. بظاء الظُّلمة. بعين العناية. بغين الغناء. بفاء الوفاء. بقاف القدرة. بكاف الكفاية. بلام اللطف. بميم الأمر. بنون النهى. بهاء الألوهية. بواو الولاء. بياء اليقين. بألف لام «لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك».
■ ■ ■
وقال رضى الله عنه سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، قبل وفاته بأيام قلائل، ويقال إنه آخر مجالسه المباركة:
الحمد لله حَمْدَ المعتصمين بحبله.. أَىْ رجال الحضرة، طالما خفقتْ فى مجالسنا أعلامُ الإرشاد، تحت ظلال قوله تعالى (الذين إن مكنَّاهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).. وإنى لأقول كما قال خليل الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إنى ذاهب إلى ربى سيهدين، رَبِّ هَبْ لى من الصالحين) أستودعكم الله، وأسأل الله أن يفتق رتق قلوبكم، بمفتاح الفضل والحكمة.
فتظهر بكم صولةُ النيابة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمة، ويجدِّد الله بكم أمر دين أمته. فتحسن بكم سياسةُ القلوب، وتضىء بالاقتباس من أنوار فتوحاتكم الصدورُ والأفئدة، ويُصلح الله بكم الشؤون (إنا لله وإنا إليه راجعون) خذوا، أَيْ خاصة، أسرارَ الحكم الخاصة. هذا إنسان الحال: بسم الله. بسم الله معراج القلوب ينصب، فتصعد عليه أجسامُ الهمم، فتنحدر صاعدة إلى بحبوحة التعيين الأول، فترقى إلى مقام الصديقية، وتتسلق ذروة (مقعد صدق عند مليك مقتدر) فتحدق بصر البصيرة، فتفكُّ مغالق النشأة الأولى..
فيندلع لسانُ صبح النشر من كَفِّ طىِّ الأمر، فتتكلم ذراتُ أحكام أنواع الحقائق بما فيها، فيُرسم فى ألواح الهمم. فإذا شَبَّتْ نارُ موسى الحيرة، ناداه البارى المقيم (اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس) فتنطمسُ الحيرةُ وتنجلى الحريةُ، وتسقط القيود، وتبدو المكنونات. ويقول رهطُ سحرةِ الأهواء (آمنَّا برب العالمين) ويقول داعى الكرم المرسل من حضرة الأمن (لا تخفْ إنى لا يخاف لدىَّ المرسلون) ويبتهج وُرَّاثُ أولئك الأملاك، فيترنَّم قائلهم، منصرفاً عن الأكوان، تالياً فى حضرة السؤدد الأبدى (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا).
وعلى نمط سرير الإضافة من معنى الأسرار، فى راقية نغمة (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) تظهرُ المظاهرُ، كُلٌّ بنسبة ما استجمعه من نقود الوراثة (ثوابُ الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يُلقَّاها إلا الصابرون) أصحاب القلوب الطائرة بأجنحة الصفا، إلى حضرة المراقبة، المؤمنون بآياته سبحانه (الذين إذا ذُكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وسبَّحوا بحمد ربهم) (وأولئك هم المفلحون) رضى عنهم ورضوا عنه.
مهلا، أَيْ سارح بفيفاء الاستبشار. لو كنتَ من أهل مرتبة الكمال الذين وصفناهم، لكان لقلبك معراجٌ يوصلك إلى الاطلاع على الحقائق المغيبة عن غيرك، فتشهد أساليب مضامين ماخُطَّ فى صحف الأزل، فتمتلئ عينك، وترجع القهقرى منزوياً عن صفوف الحادثات، اكتفاءً بما فَاضَ إليك فى كشفك الأول، فتنقطع عن ملاصقات كونيتك، وكونيات الذرات، تحت لواء (واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين).
قام من أصحاب نيابة الجامعة (يقصد وارثى النبوة، بحكم الحديث الشريف: العلماء ورثةُ الأنبياء) رجالٌ صدقوا. منهم أناسٌ من الفاطميين (آل البيت) ومنهم أناسٌ من غير الفواطم. وذلك فَضْلُ (يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).. فمن أقطابِ الخلعة، من غير الفاطميين، سيدى شيخ الخرقة «معروف الكرخى» كان نائب النظر. ومنهم سيدى «السَّرِىُّ السَّقَطىُّ» كان نائب العزم. ومنهم سيدى «الجنيد البغدادى» كان نائب اللسان القائم. ومنهم «سيدى الشبلى» كان نائب الهمة. ومنهم سيدى «سهل التُّسْترى» كان نائب القلب.
ومن أقطاب الخلعة الكاملة، من الذين لهم النسبة الفاطمية من الأمهات: سيدى «طلحة السنبكى» كان نائب القدرة. ومنهم سيدى وتاجى «منصور البطائحى» كان نائب البرهان وهامة التوبة الجامعة.
هذه زلازلُ الجلال، تفعل فى أرض المحجوبين فوق ما يفعله اضطرابُ العروق الأرضية، يوم يسوقها بمصادمة طبائعها سائقُ القدر، ليخيف أقواماً، ويعتبر بقدرته تعالى آخرون.. رجال النوبة الجامعة على وتيرة السكون يهتزون، فترى قلوب أهل الحجاب راجفة، لما يدخلها من صدمة جلالهم (فاعتبروا يا أولى الأبصار).
ويسكب الله فى بعض الأزمنة، قدرة المناسبات البشرية، من هيكل الحسن المعنوى فى الخَلْق، فيشكو المظلومُ ظالمه.. وفى بعض الأزمنة، يهب الله قدرة المناسبات البشرية، فتنعطف قلوب النوع للنوع، بالرأفة والتناصر والتوادّ. ونتيجةُ هذا الوهب، صلاحُ حال الزمان وأهله (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهَبْ لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب).
أَىْ خاصَّة، أَىْ عامَّة. فاض بحر الكرم.. (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).. أنا مأوى المنقطعين. أنا مأوى كل شاة عرجاء، انقطعت فى الطريق. أنا شيخُ العواجز. أنا شيخُ مَنْ لا شيخ له، فلا يتشيَّخ الشيطانُ على رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. عَهْداً منى بالنيابة عن النبى.. عهداً عاماً إلى يوم القيامة.. هاتِ يا منشد الفتح. وقُل كيف شئت. مجلس مأتم، ومجلس فرح (يولج الليل فى النهار) (ألا إلى الله تصير الأمور) (وكفى بالله ولياً)فعليكم بتقوى الله. ولا تخرجوا من ساحة التوحيد. ربنا الله لا شريك له، نعم الولى، ونعم النصير. والحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.