هل يمكن إنتاج السياسى دون سياسة، والأحرى فى ظل العودة إلى موت السياسة فى مصر مجددًا؟ والسؤال حول السؤال ما الذى يدفع إلى طرحه فى هذا التوقيت فى الحالة المصرية اللاسياسية بامتياز؟ السؤال قد يبدو بسيطًا فى صياغته وفى هدفه، وقد ينطوى على بعض العمومية، إلا أن طرحه وراءه عديد الأسباب على رأسها: 1- أن المراحل الانتقالية التى مرت فى أعقاب 25 يناير 2011 وما بعد، أدت إلى عودة بعض الدماء الفوارّة والحية إلى السياسة، وإلى حالة من الحيوية فى جسدها الهامد طيلة أكثر من ستة عقود مضت على تأسيس التسلطية السياسية التى وسمت النظام السياسى المصرى بعد ثورة يوليو 1952. فى أعقاب أحداث 30 يونيو، وبدء هندسة النظام وتركيبة النخبة الحاكمة، بدى وكأنها استوعبت دروس انهيار حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وحكم الإخوان المسلمين والسلفيين، إلا أن تطور الأوضاع العامة فى النظام والمجتمع، كشفت عن إعادة إنتاج نظام مبارك وأساليب الحكم التى سادت عصره، والتى تشكل امتدادًا للتسلطية السياسية، إلا أن الجديد تمثل فى تراجع مستويات الأداء حول سياسات اقتصادية لليبرالية الجديدة، وتفاقم أزمات الدين الداخلى والخارجى، والاعتماد على الافتراض من الخارج، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة وخاصة بين الشباب وخريجى الجامعات والمعاهد العليا وفوق المتوسطة والمتوسطة. من ناحية أخرى تمدد دور الأجهزة الأمنية وحصار المجال العام السياسى، من خلال قانون التظاهر وسياسة تغليظ العقاب فى عديد من الجرائم، لاسيما قانون ازدراء الأديان، وتحريك الدعاوى الجنائية ضد بعض الكتاب والأدباء على نحو يؤدى إلى كبح حريات الرأى والتعبير والإبداع. من ناحية أخرى كشف الأداء البرلمانى عن ضعف مستويات الأداء لغالب الأعضاء سواء على مستوى الخطاب البرلمانى، وعلى صعيد أداء الوظيفتين التشريعية والرقابية، وميل قطاع كبير منهم إلى دعم الحكومة والسلطة التنفيذية. هذا التراجع فى سياسة اللا سياسة –إذا جاز التعبير وساغ- هو انعكاس للعودة إلى موت السياسة فى مصر تحت عديد الدعاوى واستمرارية نمط التسلطية السياسية كنمط فى التفكير والممارسة والأداء. 2-تراجع مستويات المهارات البيروقراطية السلطوية فى عديد المجالات فى الحكومة، والبرلمان، وأجهزة الدولة، ومعها الخطاب السياسى السلطوى فى بنيته ومضمونه وأساليب البرهنة داخله، ومنطوقه، وسيطرة العفوية واللغة المحكية/ العامية والاسترسال غير المنضبط، على نحو يؤدى إلى إثارة التوترات والغضب والأزمات. 3- تفاقم الفجوات الجيلية بين النخبة الحاكمة للشباب اليقظ الساعى إلى تحقيق إصلاحات ديموقراطية فى بناء الدولة وسلطاتها، وأجهزتها، وإلى تنشيط الحياة السياسية وإلى الإصلاح الاجتماعى الشامل، من ناحية أخرى مالت النخبة الحاكمة إلى سياسة الإقصاء للشباب عن العمل السياسى وفعالياته السلمية. 4- بروز بعض أشكال الانتهاكات للحقوق والحريات العامة على نحو أثر سلبًا على صورة النظام الدولية. 5- شيوع إحساس شبه جمعى بأن مسارات عمل النظام لا تؤدى إلى إشاعة الآمال حول مستقبل التنمية والتطور السياسى نحو بناء نظام ديمقراطى شامل. 6- بروز بعض أشكال التوتر والصراع بين أجهزة الدولة بما يؤثر على تماسكها البنيوى وتكامل إداءاتها. الأسباب سابقة الذكر تضفى على السؤال الرئيس أهمية استثنائية، ومن ثم يبدو الخلل فى عمل النظام، وفى إنتاج الخطاب وفى عملية إصدار القرار السياسى على نحو يؤدى إلى ظهور فوائض للغضب الجيلى، بل وإلى تفكك الظهير الاجتماعى والسياسى فيما أطلق عليه تحالف 30 يونيو 2013. من هنا يبدو السؤال موضوعيًا وحالًا ويعكس الواقع التاريخى والموضوعى للحالة المصرية، حيث تسود التسلطية وموت السياسة مجددًا، ومن ثم افتقار الدولة والنظام والمعارضة للسياسيين. من البداهات القول أن لا سياسيين دون سياسة، وبعض الاستثناء يؤكد على هذه المقولة، فالكاريزما، والمتابعة والوعى السياسى الذى تشكل لدى ناصر قبل ثورة يوليو 1952 أفاده كثيرا فى اختياره لسياساته الاجتماعية، ومع ذلك وقع فى بعض الأخطاء السياسية الفادحة أثرت على تجربته ومشروعه الاجتماعى، وسياساته فى الإقليم، وفى الصراع العربى الإسرائيلى. بعض القادة اللا سياسيين من أباء الاستقلال فى بعض دول القارات الثلاث، جاءوا من غمار الكفاح الوطنى ضد المستعمر، وهى ما أضاف لهم شرعية سياسية كبرى، وبعض الخبرات فى مواجهة المحتل الأجنبى الغربى- البريطانى والفرنسى والإيطالى والأسبانى والبرتغالى- إلا أن الخبرات السياسية بالمعنى الحداثى للاصطلاح، كانت بعيدة إلى حد ما لأن بعضهم كان جزءًا من بنيات القوة التقليدية فى بعض الشعوب الأفريقية، وبعضهم الآخر كان لا يزال فى مرحلة الدراسة الجامعية فى الجامعات الأوروبية وترك مقاعد الدراسة ليتقلد بعض الحقائب الوزارية فى بلاده. الخ. السياسة الحديثة والسياسى الحديث هو ابن المدينة وثقافاتها من ناحية، وأحد أبرز ملامح وإنتاج السياسة هو السياسى، وذلك ضمن عديد الشروط اللازمة وعلى رأسها ما يلى: 1- تأسيس نظام سياسى تعددى وديمقراطى، يعتمد على مؤسسات سياسية وقواعد للعبة تشكل موضوعا للتراضى العام بين كافة القوى السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية والمذهبية واللغوية والقومية فى مجتمع ودولة ما. 2- الحضور الفاعل للأحزاب السياسية كمدارس سياسية ومعامل لتشكيل وتكوين السياسة والسياسى فى إطار الصراعات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع، ولبلورة الوعى الاجتماعى والسياسى لدى أعضاء الحزب وقاعدته الاجتماعية، وقيادته لاسيما إذا كانت الديمقراطية التنظيمية هى الإطار الذى يصنع من خلاله القرار الحزبى ويتم تصعيد القيادات من مستوى قيادى لآخر داخل التنظيم، وإسناد مهام فى الدولة فى حال الفوز فى الانتخابات العامة، أو ضمن ائتلاف حزبى وحكومى، وهو ما يجعل العلاقة تفاعلية بين الكادرات والقيادات الحزبية، وبين إدارة أجهزة الدولة، ومن هنا يتشكل رجال ونساء الدولة بين التكوين السياسى والعمل الجماهيرى وبين المعارضة والحكم. 3- التكوين الثقافى للسياسى سواء من خلال الجهد الشخصى أو فى إطار مدارس الكادر الحزبية، بالغ الأهمية لما تعطيه الثقافة من حساسية، وسعة أفق للسياسى، لأن السياسى فى السلطة والحكم يستهلك الرأسمال الثقافى الذى شكله وكونه قبل الوصول إليها وفق هنرى كيسنجر. 4- العلاقة المباشرة بين السياسى الحزبى، وبين قواعده الجماهيرية، وصراعه داخل النخب السياسية المتنافسة والمتصارعة، تؤدى إلى تشكيل حساسيته الاجتماعية والسياسية، ومن ثم قدرته على تلمس المشاكل فى بدايات تكوينها، أى فى منابتها الأساسية، واحتمالات تطورها وتفاقمها، ومن ثم تؤدى إلى تنشيط العقل السياسى فى تعامله مع القضايا والمشكلات المختلفة. 5- ضرورة معرفة السياسى بأحوال مجتمعه وتركيبته الاجتماعية والدينية والمذهبية والعرقية. الخ، وتعقيدات العلاقات بين هذه المكونات المختلفة، وتغيراته الاجتماعية والثقافية، وذلك كى يستطيع التعامل مع مشاكله. من ناحية أخرى لابد أن يتمتع السياسى بالمعرفة والقدرة على فهم التحولات الإقليمية والعالمية فى دقائقها، وليس فى عمومياتها، لأنها تؤثر على وضع دولته واقتصادها وسياساتها وقراراتها السياسية الخارجية والوطنية. 6- الاعتماد فى عملية صنع القرار السياسى فى الحكم، أو فى الحزب أو المعارضة على المعلومات الدقيقة، والبحوث العلمية فى عديد المجالات، أو فى موضوع صنع السياسة أو القرار السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى أو الثقافى، وذلك للحدَّ من السياسة بالانطباعات الشخصية أو سياسة احتواء المشاكل التى تؤدى إلى عدم مواجهتها فى جذورها، وتؤدى إلى تفاقمها. 7- لابد للسياسى أن يراكم ما يمكن أن نطلق عليه مكونات ملكة البلاغة السياسية سواء على مستوى اللغة السياسية الدقيقة، أو فى استخدامه للغة العامية فى مخاطبة عوام الجمهور المخاطب، وذلك حتى لا تؤدى اللغة الانطباعية وليدة اللحظة إلى أخطاء سياسية قد يتعذر تداركها، وتؤدى إلى عديد المشاكل. 8- اعتماد السياسى على النص / الخطاب المكتوب أساسًا وعدم تقليد بعض القادة الكاريزميين ذوى الخبرة والثقافة الرفيعة فى اللجوء إلى الخطاب الشفاهى، على نحو ما رأينا من خطابات تشرشل، وميتران، وناصر، وذلك لاختلاف الظروف والإمكانيات السياسية بين قادة عصرنا، وبين هؤلاء القادة التاريخيين. 9- الاعتماد على أهل الخبرة والتخصص فى عملية اتخاذ القرار السياسى أيا كان مجاله. 10- عدم الخلط بين الشخصى والموضوعى فى الخطاب السياسى. 11- التحرز الشديد فى اللجوء إلى سياسة الصدمات أو القرارات المفاجئة الصادمة للرأى العام دون تمهيد سياسى، وبعد دراسات جادة، وتقصى وتحليل لاتجاهات الرأى العام، وردود أفعاله المتوقعة تجاه هذا النمط من القرارات. 12- الشفافية والوضوح لضمان توليد رأى عام مساند وداعم للسياسى وسياساته وقراراته إزاء المشاكل والظواهر المختلفة. 13- وضع خيارات وسيناريوهات متعددة فى كل ظاهرة أو مشكلة أو أزمة ودراستها بدقة، فى ضوء التكلفة أو النفقات السياسية والاجتماعية والنفسية والأمنية على المجموع الاجتماعى. كل هذه الاعتبارات السابقة تشير إلى أن لا سياسيين بدون سياسة وحياة سياسية نابضة بالحيوية والتنافس والصراع السياسى السلمى، ومن ثم نستطيع فهم لماذا لا يوجد سياسة أو فكر سياسى أو سياسيين إلا فيما ندر فى مصر الآن، فى النخبة الحاكمة والمعارضة معًا.