شهدت حياة فريد الأطرش العاطفية الكثير من المآسى والأزمات، التى كانت أحد أسباب المسحة الكئيبة، التى لازمت ألحانه وموسيقاه فى أغلب الأوقات، والتى تركته وحيدًا بعلة شديدة فى قلبه ودون زواج فى آخر الأمر. من أكثر العلاقات العاطفية التى أرهقت قلب فريد الأطرش المريض وزادته اكتئابًا كانت علاقته بالمطربة والممثلة الرائعة «شادية»، صاحبة أحلى الألقاب وأكثرها فى مسيرة الغناء المصرى: «الدلوعة ومعبودة الجماهير وبنت مصر وقيثارة مصر وعروس السينما العربية وربيع الغناء والفن العربى ومعشوقة الجماهير».. لقد كان حبه لشادية هو الحب الأعمق فى حياته وتجربته الأكثر شجنًا ومرارة رغم علاقته الرائعة بسامية جمال فيما سبق. عاش فريد قصة حب مع شادية لم ينسها أبدًا، وعاش كثيرًا على ذكراها فيما بعد، وقام بتلحين الكثير من أعماله من وحى هذه التجربة المريرة. بدأت الحكاية بينهما منذ أول تشغيل وإضاءة للكاميرا فى فيلمها «ودعت حبك»، الذى تم إنتاجه فى سنة 1956، وقام بإخراجه العبقرى يوسف شاهين، كان اللقاء الأول بينهما فى مدينة السويس، تلك المدينة الهادئة النائمة وسط رمال شاطئ البحر الأحمر. كانت شادية قد أنهت إجراءات طلاقها من زواجها السابق بالفنان عماد حمدى، الذى كان يكبرها ب26 عامًا. كانت تجربة زواجهما شديدة الفشل، وتسببت فى الكثير من التوتر والألم لشادية، كانت مرهقة عاطفيًا، وتبحث عن الاطمئنان، وكان فريد الأطرش يعانى فى نفس التوقيت من انتهاء علاقاته بسامية جمال، التى صاحبته فى الكثير من أيامه وأعماله، وصاحبته بالرقص فى أفلامه أو فى سهراتهما الرومانسية.. لم يكن فيلم «ودعت حبك» فقط هو الذى أشعل شرارة العلاقة بين فريد وشادية، لكن كانت علاقة الجيرة أيضًا، حيث انتقلت شادية لتكون بجوار فريد، حين بدأ الحب يلتهب بينهما. سكنت شادية فى الطابق الثالث بعمارة فريد الأطرش المطلة على نهر النيل، بينما كان يسكن هو فى الطابق التاسع. وبالعودة لفيلم «ودعت حبك»، الذى كان شرارة الحب الأولى بينهما، ومن وحى مذكرات فريد الأطرش التى دوّنها مع الكاتب المصرى «فوميل لبيب»، نتأكد أن فريد قد اقترب من شادية ووضح الحب عليه منذ الوهلة الأولى فى تصوير هذا الفيلم. كان فريد قلقًا، غير واثقٍ من حب شادية له، وكان يعتقد أن مشاعرها لا تتعدى حدود الزمالة، ولاحظ فريق عمل الفيلم اهتمام فريد بها، وقلقه عليها عند تأخرها أو غيابها. حتى اعترف لها، وبدأت قصة حب ناعمة مع زميلة العمل التى صارت فتاة الجيران! وأكد فريد فى مذكراته تلك، أن شادية عوّضته عن كل عذاب الماضى بحنانها واهتمامها به، وسؤالها عن أكله وشربه وساعات نومه، بل إنها كانت تطبخ له بيدها، وتعد له الطعام الشرقى المحمل بالنَفَس النسائى الرقيق، عوضًا عن أطعمة طباخه الخاص التى لا تحمل المشاعر، ولا تأتى بنكهة العشق والغرام، وللحق كانت شادية طباخة ماهرة بالفعل، تنسى أنها فنانة شهيرة حين تدخل إلى عالم المطبخ، ولا تتذكر إلا كونها «ست بيت شاطرة»، وهذا يعود لنشأتها فى أسرة تقدس مفهوم العائلة، فوالدتها خديجة هانم كانت «ست البيت»، والطباخة الماهرة صاحبة الصيت الذائع والشهرة الكبيرة فى جودة طعامها ومذاقه الفريد، للدرجة التى جعلت الملك فاروق يطلبها بالاسم، كى تعد له بعض الأطعمة الخاصة فى أوقات زيارته لمدينة إنشاص، وكانت خديجة هانم فى منتهى البراعة فى إعداد الفطير المشلتت والأكلات التركية، وبالطبع نشأة كهذه لن تجعل شادية تتقبل قصة حب من دون نهاية سعيدة وزواج، خصوصا أن الأسرة قد بدأت تسأل عن علاقتها بفريد وسبب إعدادها للطعام من أجله، وهكذا أيضًا تساءلت الصحافة الفنية، التى تسربت إليها أخبارهما، عن قصة فريد وشادية. كانت لطبيعة فريد الصاخبة وميله الشديد لحياة السهر واللهو، وبيته المفتوح بلا أى نظام لكل الأصدقاء والعابرين، وتمتعه بحالة الحرية الكاملة بلا رقيب ولا حساب، دور كبير فى تعطيل فكرة الزواج فى رأسه، والخوف الشديد من خوضها، والقلق المبالغ فى البدء فى حياة تقليدية منتظمة ومسؤولة، خصوصًا بعد اكتشافه مرضه وعلة قلبه. وبدأ الصراع المرير داخل نفسه بين قلقه من فقدان شادية وقلقه من فكرة الزواج، الصراع بين تصوره الذى يشبه اليقين أن الزواج قد يقضى على الحب، ويضرب الغرام فى مقتل، وبين عشقه الجارف لشادية، واحتياجه الكبير لها كزوجة عاشقة مخلصة تقوم برعايته فى مرضه وتجلس بجواره حين يلازم فراش الوهن والضعف، وقد كان واثقًا تمام الثقة أن هذا العالم الصاخب الذى يلتف حوله لن يقدم من هى أفضل من شادية «بنت البلد» كزوجة مخلصة ووفية تستطيع أن تعين زوجها على أعباء الحياة، إلى أن حسم فريد الأمر بداخله حين تأكد فى أثناء فيلمها الثانى «إنت حبيبى»، الذى تم إنتاجه فى عام 1957، الذى قام بإخراجه أيضًا يوسف شاهين، من أن حبه لشادية ليس بنزوة أو هو مجرد تعود على وجودها بجواره. لذا قرر السفر إلى فرنسا بعد أن انتهى من تصوير هذا الفيلم لإجراء بعض الفحوصات الطبية الهامة، حتى يطمئن أن بمقدوره العطاء كزوج! لكن شادية التى أصرت على مصاحبة فريد فى هذه الرحلة شعرت بجرح غائر فى كرامتها، حين رفض فريد هذه الفكرة، كان فريد يفضل أن يذهب بمفرده أولًا كى لا يزعجها بفكرة مرضه، وثانيًا حتى يعود إليها كفارس الأحلام، الذى سيفاجئها حين عودته إلى القاهرة بفستان الزفاف الباريسى، وبالخاتم الماسى المصمم بالذوق الفرنسى الرفيع، وكانت شادية تفضل أن تكون بجواره حتى تطمئن أنه يحبها بالفعل، وأن رحلته الغامضة والمفاجئة لفرنسا ليست هروبًا منها أو سعيًا وراء امرأة أخرى. ودخل سوء الظن بينهما! عاد فريد من فرنسا ليُصدم بزواج شادية من رجل آخر، ولتكتمل فصول المأساة، عرف فريد أن شادية قد تزوجت من أحد أصدقائه، حيث إنها تزوجت فى 20 يناير 1958 من المهندس عزيز فتحى، الذى كان يعمل مهندسًا بالإذاعة المصرية حينها، الذى تعرفت عليه وتوطدت العلاقة بينهما فى إحدى سهرات فريد الأطرش، التى كان عزيز فتحى يتردد عليها دائمًا بصحبة خالتيه ميمى وزوزو شكيب، وكأن شادية أرادت الانتقام من فكرة هجر فريد لها وسفره الغامض لفرنسا بهذه الزيجة! ويحدثنا فريد بنفسه عن فراق شادية فى مذكراته قائلا: «طرتُ إلى باريس، وأحسستُ فراغًا لا سبيل إلى شغله حتى ولو اجتمع لى عشرون صديقا، وأفكارى تطير إلى القاهرة، وأتخيلها فى البيت أو الاستديو أو بين صاحباتها، وكنت أتحدث إليها مرة كل يومين، ويستبد بىّ الشوق فأتحدث كل يوم.. كيف إذا أستغنى عنها». وقع فريد فى محنة كبيرة لم يكن يتوقعها ولم تكن ضمن مخيلاته أبدًا، لقد هجرته شادية، وتزوجت من غيره، ولسوف يفتقد حنانها ورعايتها وطيبة قلبها طعامها الشهى..!! كان الوجع كبيرًا، والصدمة عنيفة مزلزلة لقلبه العليل، لكنه خرج علينا بواحدة من أكثر أعماله شجنًا وحزنًا وشاعرية، وهى أغنية «حكاية غرامى»، تلك الأغنية التى عبّر فى كلماتها بمساعدة الشاعر مأمون الشناوى وبلحنه العبقرى عن قصته مع شادية. ربما لم يترك القدر الفرصة لفريد الأطرش ولا لشادية كى يعيشا حكاية غرامهما، لكنه ترك لنا أغنية خالدة لنعيش جميعًا بمتعة الاستماع إليها، لقد ترك لنا فريد حكاية غرامه التى لم تكن ككل الحكايات. أعزائى، فى مثل هذه الأيام التى نحتفل فيها بذكرى رحيل سلطان الطرب الشرقى ترحموا عليه معى وترحموا على حكاية غرامه. حكاية غرامى حكاية طويله ... بدايتها ذكرى الليالى الجميله وحرمانى منها ما بين يوم وليلة ... ماليش يد فيها ماليش فيها حيله كتبها زمانى عليا ... بدمى وبدموع عينيه حكاية غرامى حكاية طويلة ومرت بنا الأيام تجرى ... نشرب من الحب ونسقيه أبيع لمين باقى عمرى ... ويرجع الحب ولياليه عشنا فى فرحة وأمان ... كان أملنا نعيش كمان بس ما رضيش الزمان