يعتبر الإلحاد من الملفات الشائكة خاصة في الوطن العربي، وغالبًا ما يشتبك الباحثون مع أنصار الإلحاد فتغيب بعض المفاهيم في ظل هذا الاشتباك الضاري، ومساهمة منا في تجلية الأمر وإظهار حقيقة الصراع الفكري الذي يملأ ساحات البحث والنقاش، كان لنا هذا الحوار مع أحد المتخصصين في الرد على الإلحاد والملحدين. علماء غربيون: الإلحاد لا يقف على قدم ثابتة أمام العلم الغرب يرفض الإلحاد والأزهر متخاذل. الدكتور هيثم: لم أجد دعمًا من المؤسسة الرسمية في الرد على الإلحاد. في البداية نود أن نتعرف عليك وعلى تخصصك ومجال بحثك؟ أنا هيثم طلعت علي سرور، طبيب بشري أعمل في مجال طب المناطق الحارة، ومهتم بالملف الإلحادي. لماذا تُحذر من الرؤية الإلحادية، وتزعم أنها تُسمم الوجود بأكمله؟ الرؤية الإلحادية تُفقد العالم المعنى وتُبدد الجمال وتقتل القيمة وتُحول أروع الأشياء إلى رعب. الرؤية الإلحادية تجعل كل الوجود بلا لزوم. وتجعل كل الغايات الجميلة سخف وهراء، وتصير أجمل الأحلام إلى كابوس مرعب، ويصبح الوجود كله بلا معنى. يُعبر عن هذه الحقيقة المزعجة الملحد الوجودي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre في روايته "غثيان" كالتالي: " لا داعي للوجود على الإطلاق وليس للحياة معنى، فأنا قد ظهرت صدفةً كجرثومةٍ لم يكن لي أن أوجد على الإطلاق." وهذا صحيح من منظور إلحادي، فنحن شيء عرضي تافه في هذا الكون مثل ذبابة مايو mayflies التي تظهر وتختفي في طي النسيان؛ كما يصفنا داعية المذهب المادي الكاتب شيت رايمو Chet Raymo " Raymo, Chet.. Skeptics and True Believers., p.222. أما الرؤية الإيمانية فهي على المقابل من ذلك تمامًا تجعل العالم مفهوم والحكمة مدركة والبلاء مقبول والكد مجبور. {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} ﴿6﴾ سورة الإنشقاق. فالإحالة إلى الإيمان هي شرط فكري وعقلي لاستيعاب المعنى والغاية ومبررها المعطى المادي نفسه. الإحالة إلى الإيمان مبررها ظاهرة "الإنسان". ذلك الكائن الذي لا يمكن استيعابه في إطار المادة ولا الحتميات الصارمة التي تحكمها! ذلك الكائن الذي أقدامه مغروسة في الوحل، بينما يتطلع إلى السماء. حسنًا؛ لكنك لم توضح لنا ما هي المشكلة مع شخص يؤمن بهذه الأفكار الإلحادية؟ فلينظر للوجود هذه النظرة. ثم ماذا؟ في الداخل الإلحادي لا يستطيع الإنسان أن يستمد معنىً للقيمة ولا للأخلاق ولا للغاية. فأنت بلا دين تتحول إلى كتلة خلايا ترتطم على جدرانها أيونات صوديوم وبوتاسيوم. وتصبح نمط مادي من حساء سيتوبلازمي Cytoplasm زلالي بلا حدود ولا إطار. فما الإنسان إلا كمبيوتر من اللحم، كما يقول شيت رايمو –سابق الذكر-. Raymo, Chet. Skeptics and True Believers. p.187-188. وفي هذا الإطار يصبح من العسير الدفاع عنك. ويصبح كل خطأ صواب، وكل صواب خطأ؛ فلا معنى لا للخطأ ولا للصواب. يقول الملحد ريتشارد داوكينز مُلخصًا الوضع: "الكون في حقيقته بلا تصميم، بلا غاية، بلا شر ولا خير، لا شيء سوى قسوة عمياء لا مبالية." River out of Eden, p.131-132 وفي هذا الإطار الذي أفقد الوجود معناه؛ تصبح أكبر الجرائم بلا معنىً، ويتحول الإفساد في الأرض إلى حركات ذرات متراطمة بلا غاية. يقول آرثر ألين ليف Arthur Allen Leff أستاذ القانون بجامعة يال بالولاياتالمتحدةالأمريكية: " لا توجد طريقة لإثبات أن حرق الأطفال بقنابل النابالم هو شيء سيء." Economic Analysis of Law, p.454. فإذا كان الإله غير موجود فإحراق الأطفال بقنابل النابالم قضية نسبية حضاريًا. إذا كانت مقدمتك منطقية فالنتيجة أيضًا منطقية. ولا تستطيع من داخل الإلحاد أن تصِم المقدمة أو النتيجة بالفساد! وتوكيدًا على ما سبق يُلخِّص الحائز على نوبل في الأدب تشسلاف ميلوتش Czeslaw Milosz في مقاله "مفاتن العدمية الحذرة The discreet charms of nihililsm" الموقف على النحو التالي: "الإلحاد أفيون الشعوب"؛ فاعتقادك بعدم الحياة بعد الموت هو أكبر مخدِر للقيم. فالإلحاد يقدم عزاءًا ضخمًا لكل المجرمين والقتلة والزناة بأنه لا بعث ولا حساب! وداخل هذا التخدير المُتعمد للقيم يصبح الاغتصاب عمل محايد. وهذا توصيف ريتشارد دواكينز لجريمة الاغتصاب فيقول: "اعتقادك بأن الاغتصاب خطأ أمر اعتباطي تمامًا." From an interview with Justin Brierley of unbelievable وقد أصاب ريتشارد داوكينز؛ فمِن أين لك أن الاغتصاب خطأ والتعفف أفضل؟ وعلى أي مستندٍ تعتمد خطأ فعلٍ أو صواب آخر؟ إذا لم تكن هذه هي الفوضى فما هي الفوضى؟ كلام هام ومؤثر وهذا ربما يدفع الملحد إلى الجنون؟ أنت إذا أردت أن تُدمر معنى وجود الإنسان في هذا العالم وتُدمر مبادئه ومطلقاته فلن تفعل أكثر من أن تنزع غاية وجوده عنه، وتحاول أن توهمه بعبثية وجوده. ولم يفعل الإلحاد غير ذلك! يتحدث الملحد ريتشارد داوكينز بفخر عن شخصٍ ما أخبره أنه لم ينم لثلاثة أيام متواصلة، بعد أن اطلع على النظرة الإلحادية للوجود التي يبثها داوكينز في كتبه، فقد اكتشف ذلك الشخص –والكلام على لسان داوكينز- أن الحياة مجرد خواء بلا معنى! فمن نسي الله نسي نفسه، ونسي قيمته ونسي معنى وجوده{نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ﴿19﴾ سورة الحشر. سبحان الله! إنها سنة كونية لا تتخلف! سنة كونية تتبع كل كافر يريد أن ينسى الله؛ فإذا به ينسى نفسه. لكن دعني آخذ استراحة فكرية؛ ولتخبرني عن كتاب ترشحه للمهتمين بهذا الملف! هناك كتاب مناظرة الملحدين وهو يشتمل على بعض المناظرات لي مع رؤوس الملحدين والربوبيين واللاأدريين العرب. والكتاب مشاع على الإنترنت.
جيد. أشكرك؛ لكن هل هناك دورات علمية لتثقيف الشباب في هذا الشأن؟ نعم، هناك دورة نقد الإلحاد بدولة السودان الشقيق، وإن شاء الله يستفيد جيدًا من يستمع لها. وهي عبارة عن ثلاث حلقات. وهل هناك دورات أُجريت في مصر؟ هناك دورة نظّمها مركز الفتح وألقيت فيها هذه الحلقة عن طريقة استدلال الملحد وكيف يتفهم الشاب أسلوب الملحد وينقده بسهولة.
بما أننا نتحدث عن الدورات وتثقيف الشباب في الشأن الإلحادي. فدعني أسألك مباشرةً عن موقف المؤسسة الرسمية في مصر من ملف الالحاد؟ وهل هو موقف إيجابي أم سلبي؟ للأسف الشديد الموقف سلبي للغاية، ولو كان في ذهني الآن توصيف أقسى من هذا لاستخدمته. الملحد يدور على الفضائيات، ويُبشر بكهنوته الإلحادي بين الشباب الصغير الباحث عن كل غريب وشاذ. ويجمع الملحد التمويلات ولا تتعرض له المؤسسة الرسمية بشيء ظنًا منها أنها تتعامل برقي مدني أو حضاري. ولا تعرف المؤسسة الرسمية في مصر أن الملحد يتم اعتقاله فورًا في دولة كاليونان –حالة إدلر نموذجًا- ، ويحرم على الملحد أن يقترب من مدرسة حكومية في دولة كأيرلندا. ويُعامل في البرازيل رسميًا كمدمن مخدرات، ويُمنع في أمريكا من تولي أي منصب إداري، طبقًا لدستور ولاية أركنساس الفصل التاسع عشر المادة الأولى: "لا يحق لأي ملحد تولي أي منصب إداري في الولاية، ولا يكون أهلاً للشهادة في المحكمة." Arkansas State Constitution, Article 19 Section 1 Miscellaneous Provisions No person who denies the being of a God shall hold any office in the civil departments of this State, nor be competent to testify as a witness in any court. وفي ولاية مثل بنسلفانيا لا يحق للملحد حتي أن يفتح كشك سجاير! تخيل! ونصوص دساتير أكثر الولاياتالأمريكية على ذلك راجع دستور ولاية ساوث كارولينا الفصل السادس المادة الثانية، وولاية تينيسي الفصل التاسع الفقرة الثانية، ودستور ولاية تكساس الفصل الأول الفقرة الرابعة. هكذا تتعامل الدول العلمانية عالية التقانة مع الملحدين! هذا كلام غريب ومدهش صراحةً. الملحد محرومٌ رسميًا في الغرب من حضانة الطفل، ومن الالتحاق بفرق الكشافة. تنص منظمة الكشافة الأمريكية (Boy Scouts of America BSA) على منع الملحدين واللاأدريين من اللحاق بها. لماذا الغرب يتعامل معهم بهذه الصورة؟ هذه خلاصة تجربة مريرة مع الإلحاد في الغرب عبر عقودٍ من الزمان! فالملحد حين كانت في يده السلطة قضي على أية سمة دينية، وفي رسائل فلاديمير لينين Vladimir Lenin الرسمية-والتي تعد الآن من وثائق الحكومة الروسية –السوفيتية سابقًا-، يقول لينين ولينين هذا كان ملحدا وكان رئيسا للاتحاد السوفيتي السابق يقول: "يجب علينا الآن سحق رجال الدين بكل حزم وبلا هوادة، وإخماد كل مقاومة لهم بحيث لا ينسوا ذلك عبر السنين." بل وقال أيضًا: "في هذا الاجتماع أُصدر قرارًا بإزالة ملكية جميع رجال الدين والكنائس بلا رحمة ولا ندع لهم شيء، ويجري هذا القرار في أسرع وقت ممكن وبمنتهى الكفاءة وكلما زاد عدد مَن نُطلق عليهم النار كان أفضل."
الملحد حين كانت في يده السلطة قتل ربع شعبه –الملحد بول بوت نموذجًا-: فحين وصل الملحد بول بوت Pol Pot إلى الحكم في دولة كمبوديا أباد رسميًا 25% من شعبه باسم الإلحاد والفلسفة المادية خلال 3 سنوات قضاها في الحكم. وهذه النسبة 25% مُسجلة رسميًا في دفاتر الدولة.
الملحد حين أدار الدولة أباد العلماء والمثقفين –حالة ماو تسي تونج نموذجًا-: اعترف ماو تسي تونج رئيس الصين الملحد السابق في اجتماع لكوادر الحزب عام 1958: "لقد تفوقنا على تشين شي هوانغ Qin Shi Huang –امبراطوار صيني قديم اشتهر بدفن العلماء أحياء- في محاربته للعلماء والمثقفين، لقد دفن تشين شي هوانغ 460 عالم وهم أحياء، أما أنا فقد دفنت 46 ألف عالم وهم أحياء، إنكم أيها المثقفون تنسبوني باستمرار إلى تشين شي هوانغ، إنكم مخطئون! لقد تفوقت على تشين شي هوانغ بمائة ضعف." Mao Zedong sixiang wan sui! (1969), p. 195 بل كان الملحد الملحد بول بوت الذي ذكرناه سابقًا يقتل أي شخص يرتدي نظارة خشية أن يكون مثقف! تخيل! 46 ألف عالم يدفنهم ماو تسي تونج وهم أحياء. كلام عجيب ومزعج! هل هذا له علاقة بنظرية التطور؟ ماو تسي تونج قام بدفن هؤلاء العلماء خوفًا على إلحاده من المثقفين. وكان بالفعل ينظر إلى المخالفين نظرة داورينية فجة فمن كلماته الشهيرة: " جميع الحيوانات السُفلية سوف تُعدم". لكن دعني آخذ معك استراحة فكرية أخيرة في هذا الحوار، وأسألك: ما هي مشكلتك مع نظرية التطور؟ المشكلة أنا لست طرفًا فيها، المشكلة هي بين الملحدين وبين العلم لا أكثر، الملحد يريد أن يقنعك بصحة التطور. وأنا أقول له حسنًا أعطني دليل واحد على تطور نوعي كبير تم رصده مباشرةً عبر البحث الإمبريقي أو الأحفوري، وإلا فأنت تؤمن بالنظرية فقط حتى يستقيم لك إلحادك. ما معنى يستقيم له إلحاده؟ الكائنات الحية على وجه الأرض إما مصدرها تطور أو خلق إلهي مباشر، ولا بديل ثالث. فالملحد مضطر للتسليم بصحة التطور حتى يستقيم له إلحاده. الملحد يريدها تطور! لكن هذا أمر غريب حقًا. معقول نظرية التطور لا يوجد عليها دليل واحد مباشر؟ هناك مجموعة من التحديات أنا قمت بعرضها لي الآن قرابة الشهرين، ولم يتقدم ملحد واحد أو تطوري عربي واحد للإجابة عن تحدٍ واحد. وهذا منشور التحديات أضعه الآن بين أيديكم. في الختام؛ نود أن نشكرك يا دكتور على هذا الحوار الشيق. وفقكم الله.