تدير الولاياتالمتحدة العالم من واشنطن عبر وسطاء دوليين، سواء كان هذا الوسيط حلفاً كحلف شمال الاطلسى فى أوروبا ، أو دولة كاليابان فى أسيا، أو جماعات ضغط منتشرة فى الكثير من الدول. يمكن القول أن هؤلاء الوسطاء بإختلاف تكويناتهم هم الادوات أو الاذرع التى تحافظ على حالة الاستقرار الامنى والاقتصادى والسياسي التى تصب فى مصلحة الولاياتالمتحدة أولاً، وبخسارة إحدى هذه الاذرع فإن واشنطن ستواجه إما ثغرة أمنية أو اقتصادية أو سياسية تضر بمصالحها، وبناءاً عليه فإن الولاياتالمتحدة ستفعل كل ما من شأنه الحفاظ على وجود واستمرارية هذه الاذرع حول العالم. حلف شمال الأطلسى " الناتو" ذراع الولاياتالمتحدة فى أوروبا وعينها على الشرق الأوسط وروسيا، هذا الحلف الذى تم تأسيسه عام 1949 انطلاقاً من معاهدة بروكسل 1948، وذلك فى اطار الاستجابة للعديد من التحديات والتهديدات الدولية التى برزت على الساحة الاوروبية اعقاب الحرب العالمية الثانية وعلى رأسها التهديد القادم من الاتحاد السوفيتى بما يحمله من ايديولوجيا جديدة مناقضة لتلك التى كانت موجودة فى الغرب بشكل يهدد الوحدة الفكرية لمفاهيم الغرب وقيمه، وبما يحمله أيضاَ من تهديد عسكرى فى ظل تداعى القوة العسكرية لكل القوى الاوروبية التى شاركت فى الحرب العالمية الثانية مقابل خروج الاتحاد السوفيتى من نفس الحرب وهو يمتلك 175 فرقة عسكرية مازالت محتفظة بحميتها العسكرية للحفاظ على الوجود السوفيتى بل والعمل على توسيعه. تفكك بنيان الاتحاد السوفيتى عام 1991، الا انه فلسفته فى البقاء كعضو مؤثر وفاعل دوليا ومناوىء للولايات المتحدة ظلت مستمرة على نفس الوتيرة لكن بوجود هامش بسيط للإدعاء بأن علاقات الطرفين خضعت لإعادة النظر بشأن ضرورة التخلى عن أحلام الماضى التوسعية، أو رغبة كل طرف فى القضاء على الطرف الأخر. باستمرار فلسفة روسيا المناوئة للولايات المتحدة، فإن واشنطن كانت قد رأت ضرورة الابقاء على كيان حلف شمال الاطلسى" الناتو" بنفس الصيغة التى التى تم تأسس انطلاقاً منها، بهدف استخدامه كأداة سياسية وعسكرية إن لزم الامر للتصدى لرغبات روسيا التوسعية فى أوروبا والشرق الاوسط، أو بمعنى اخر ردع موسكو. دعوات أوروبية لفك الارتباط بالولاياتالمتحدة فى ظل حاجة الولاياتالمتحدة الماسة لحلف شمال الاطلسى" الناتو" كانت قد ظهرت على السطح نزعات استقلالية لبعض دول أوروبا فى خمسينيات القرن الماضى، بهدف التغريد بعيداً عن سيطرة الولاياتالمتحدة العضو غير المؤسس داخل الحلف، وكان على رأس هذه الدول فرنسا التى سعت الى امتلاك قوة نووية مستقلة عن المظلة النووية التى توفرها واشنطن لدول الحلف، خصوصاً وان الولاياتالمتحدة لم تقدم الدعم لباريس بشأن برنامجها النووى، بينما قدمته لبريطانيا بشكل ساعد لندن على إنتاج القنبلة النووية عام 1953 . كما أن سلوك الولاياتالمتحدة الرافض والمندد لاشتراك فرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 قد ساهم فى رفع مستوى الرغبة لدى فرنسا بشأن ممارسة حالة أكثر استقلالية على المستوى الامنى والعسكرى والسياسي بعيدا عن سيطرة الولاياتالمتحدة فى شكل قوة عظمى. واستمرت رغبة الحصول على حالة أكثر استقلالية لدىف رنسا حاضرة فى السلوك الدبلوماسى للرئيس شارل ديجول حتى انتهى الامر بإنسحاب باريس من الجناح العسكرى للحلف عام 1966، الا انها عادت مرة أخرى بعد تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية بالموافقة على طلب الرئيس نيكولا ساركوزى بضرورة عودة فرنسا الى القيادة العسكرية لحلف الناتو عام 2009 . هذه النزعة الاستقلالية تصاعدت لدى بعض دول اوروبا الأخرى، بل أن هناك دعوات قد بدأت فى الظهور تدور حول أن الحاجة الى الحلف قد إنتفت سواء بعد الانفراج فى العلاقات الامريكية السوفيتية فى مرحلتها الاولى بعد أزمة الصواريخ الكوبية، أو مرحلتها الثانية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى 1991 . دول الناتو الاوروبية تتحمل نتائج مغامرات الولاياتالمتحدة العسكرية جاء انخراط الولاياتالمتحدة فى الكثير من الحروب حول العالم ليشكل هو الاخر أحد الاسباب التى جعلت دول الناتو تعيد التفكير فى فلسفة الحلف وهل وجوده يشكل عبئاً على الدول الاعضاء نظراً لرغبات الولاياتالمتحدة التوسعية او تحركاتها الغير مسؤولة حول العالم كما حدث فى فيتنام مثلاً، حيث جاءت حرب فيتنام لتنال من قدرة الولاياتالمتحدة على توفير المساعدة المطلوبة لدول الناتو متمثلة فى المظلة النووية وباقى اشكال الدعم الامريكية، بل تجبر دول الناتو على الانخراط فى اعمال عسكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل. وقد تأكد رفض دول الناتو لتحملهم عبأ تحركات الولاياتالمتحدة عسكرياً حول العالم عندما طلب الرئيس الامريكى جيمى كارتر من الدول الاعضاء توسيع رقعة السيطرة الامنية خارج أوروبا وذلك اثناء الغزو السوفيتى لأفغانستان 1979، الا ان دول الحلف رفضت هذا المقترح. من يحمى أوروبا، ولصالح من؟ هنا يظهر سؤالاً على السطح حول من يحمى اوروبا، هل هم الاوروبيون من خلال مؤسساتهم الامنية المختلفة المنطلقة من شعور بالسيادة، ام الولاياتالمتحدة من خلال سيطرتها على حلف الناتو، خصوصاً فى ظل السياسة الامريكية فى الابقاء على دول الحلف دون المستوى المطلوب من القيام بعملية دفاع ذاتى دون الحاجة للولايات المتحدة. بعد الوحدة الالمانية بين شرقها وغربها شعرت الادارة فى برلين بضرورة انتهاز الفرصة واستعادة الشعور القومى بشأن ضرورة الظهور كقوة عظمى والتخلص من أى سيطرة خارجية متمثلة فى الولاياتالمتحدة مفتاح ومحرك وقائد الحلف الذى لم تكن يوماً ما من اعضائه المؤسسين، خصوصاً فى ظل الرؤية الاوروبية فى التسعينات بان معطيات الوضع الراهن قد باتت مختلفة وأكثر استقراراً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً عن فترة تأسيس الحلف، وبمعنى اخر انتفت اسباب بقاء الحلف بشكله الحالى على أن يتم البحث عن صياغة جديدة لا ينتج عنها اى ثغرات امنية او سياسية او اقتصادية وفى نفس الوقت تكون اوروبا للاوروبين. استقرار دول الناتو ليس فى صالح الولاياتالمتحدة اننا اذا اردنا نلخيص حالة حلف الناتو وموقف واشنطن منها، يمكننا أن نقول أن استقرار دول الناتو عسكرياً وأمنيا فى المقام الاول لا يصب فى مصلحة الولاياتالمتحدة، حيث ان وصول أوروبا لحالة من السلام الامنى سيساهم فى ارتفاع الاصوات المنادية بانتفاء اسباب وجود الحلف ، وهو ما لا تريده الولاياتالمتحدة التى لا تهتم بما يريده الاوروبين بقدر ماتهتم بالابقاء على الحلف لمصلحة ذاتية فى الحفاظ على أمن أوروبا واعتباره رأس حربه لأى تهديدات قادمة من الشرق الاوسط وروسيا. باختصار يمكن القول ان واشنطن تعتبر الحلف حائط صد يجب العمل على بقائه مهما كانت الظروف. ولذا فإن تكرار حوادث الإرهاب فى اوروبا يخدم الولاياتالمتحدة ويدعم رؤيتها بضرورة الابقاء على الحلف بهدف الحفاظ على امن اوروبا الذى هو بالتبعية حفاظاً على أمن الولاياتالمتحدة بالإبقاء على الخطر فى الداخل الاوروبى. حادث باريس ورقة ضغط أمريكية للابقاء على الناتو جاء حادث باريس الاسبوع الماضى ليصب فى صالح هذه الفكرة الامريكية بضرورة الابقاء على الحلف بل اعادة النظر فى امكانياته العسكرية بشكل أكثر تطوراً. حيث تصاعدت الدعوات فى الصحف الامريكية بعد الحادث بشأن ضرورة العمل معا ( واشنطن- حلف الناتو) بشأن وضع خطة عسكرية شاملة لا تقتصر على الطلعات الجوية وفقط للقضاء على تنظيم داعش. العديد من الاصوات داخل اوروبا تعتبر أن سيطرة الولاياتالمتحدة على الحلف تعطيه طابع الاحتلال بشكل أو باخر، خصوصاً وان قيادة الحلف دائماً أمريكية متمثله فى منصب " القائد الاعلى لقوات الحلفاء فى اوروبا"، على الرغم من كون واشنطن ليست من الاعضاء المؤسسين، وعلى الرغم من أن مقر قيادة الحلف يقع فى بروكسل الاوروبية وليس واشنطن. احتمال نشوب صراع بين واشنطنوموسكو مطروحاً دائماً على الساحة قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وسيكون على الناتو الاشتراك فى عمل عسكرى على حدود معظم دوله القريبه من روسيا بشكل يساعد على انهيار العلاقات الاقتصادية بين غالبية دول اووروبا وموسكو فضلاً عن التهديدات العسكرية الحتمية التى ستكون فى اعلى حالاتها نووية، وفى أقلها اشبه بتدمير ليننجراد اثناء الحرب العالمية الثانية. وهى كل التصورات التى يضعها المعارضون لارتباط اوروبا بعلاقات عسكرية مع الولاياتالمتحدة الدولة المتأهبة دائماً لحروب ستكون وبالاً على أوروبا القريبة من مناطق الصراع، فى حين أن اقرب منطقة أمريكية من نفس نقاط الصراع تبعد ألاف الاميال، وهو مايعنى ان اى صراع محتمل لن يؤثر على الولاياتالمتحدة فيما يخص بنيتها التحتية او حتى قدراتها العسكرية المهولة بقدر ما سيؤثر سلباً على دول الناتو، وهى نفس النتيجة الايجابية التى خرجت بها من الحرب العالمية الثانية، حيث تحطمت كل قدرات القوى المتحاربة، بينما ظلت قوة الولاياتالمتحدة فى اعلى مستوياتها، بل ازدادت. إننا هنا أمام حالة فريدة من نوعها فيما يخص العلاقات الدفاعية بين الدول، حيث كان هدف دول الناتو الاوروبية عندما قبلت بإنخراط الولاياتالمتحدة البعيدة جغرافياً وفكرياً وسياسياً عن اوروبا يهدف فى المقام الاول توفير كل ما من شأنه الحفاظ على أمن أوروبا ، الا ان الأحداث اثبتت ان ماوقع هو العكس، حيث أدت أخطاء الولاياتالمتحدة ومغامراتها العسكرية الى نتائج عكسية ارتدت ضد حلفاء واشنطن، سواء بسبب ما الت اليه الظروف فى العراق نتيجة السلوك الامريكى الخاطىء هناك، او بسبب عدم قدرة البيت الابيض فى القضاء على تنظيم داعش فى المهد والسماح له بالتمدد عبر سياسات احتواء خاطئة، لينتهى الامر بأن قرر الارهاب الانتقام من الولاياتالمتحدة عبر اوروبا ، فدفعت أوروبا ثمن هذا الارتباط الخاسر، فى نفس الوقت الذى ساهمت فيه هذه العمليات الارهابية فى تشديد الولاياتالمتحدة على ضرورة الابقاء على هذا الارتباط متمثلاُ فى حلف الناتو الذى يخدم مصالحها اولا متذرعة بوجود تهديدات كبرى تطال اوروبا وكان أخرها حادث باريس الذى جاءت على طبق من ذهب لواشنطن لتؤكد على هذا الامر.