قرار فرنسا تعزيز وجودها في أفغانستان.. هو قرار متخذ بالفعل وربما يكون الإعلان الرسمي لهذا القرار في مناسبة قمة حلف الأطلسي( الناتو) التي تنعقد في بوخارست في الفترة من2 الي4 ابريل. وإن كان هذا الموضوع قد احتل مكانا بارزا في مباحثات الرئيس ساركوزي مع رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون في لندن خلال زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي لبريطانيا وأيرلندا تماما مثل مسألة عودة فرنسا مرة أخري لتحتل مكانها في القيادة العسكرية المشتركة للحلف. ساركوزي في إطار السياسة الجديدة التي وضعها مع مستشاريه تجاه أفغانستان يعتزم إرسال قوات إضافية من ألف رجل من بينهم ما بين150 و200 من القوات الخاصة والذين كانت فرنسا قد سحبتهم في يناير2007 في عهد الرئيس شيراك هؤلاء الكوماندوز الفرنسيون كانوا قد واجهوا المقاتلين من تنظيم القاعدة في الجبال القريبة من باكستانالي جانب القوات الأمريكية. ساركوزي, منذ توليه رئاسة فرنسا يري أن الملف الأفغاني يندرج في ترنيمة دبلوماسية واسعة تضع في الحسبان بين أمور أخري طموح ساركوزي المعلن لإطلاق أوروبا الدفاع في مناسبة رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من العام الحالي واعتبارا من أول يوليو المقبل وكذلك الحال بالنسبة للفكرة التي تم اطلاقها منذ وصول ساركوزي الي قصر الإليزيه, بل وحتي من قبل ذلك بأن فرنسا يمكن أن تعود لتحتل كامل مكانها في حلف الأطلسي. وباريس التي لديها قناعة بأن ما يقوم به الغرب في أفغانستان يدخل في إطار الدفاع عن القيم الديمقراطية في مواجهة ما يسمونه بالإرهاب الجهادي وهي ترغب في إظهار تضامن قوي مع واشنطن, التي طلبت من الحلفاء زيادة مساهماتهم بالقوات بسبب ما تواجهه قوات حلف الأطلسي من صعوبات هناك. وفرنسا, تري أن أفغانستان تمر بلحظة حاسمة, فلا كسبنا الحرب.. ولا خسرناها, ويتعين إعادة النظر في التناول العام للمشكلة, وإلا فإنه سينظر الي القوات الأجنبية علي أنها ليست قوات تحرير, وانما قوات احتلال, وفرنسا, بتعزيز قواتها ووجودها في أفغانستان, التي تظل مع ذلك, مساهمة ضعيفة بالمقارنة بدول أوروبية أخري, ومقارنة بالامكانات الفرنسية, إنما تريد تحسين موقفها التفاوضي, في مواجهة الحلفاء, في الميادين الكبري للأمن والتعاون الدولي. كما أن باريس, تستعد لاستقبال مؤتمر دولي حول أفغانستان, في يونيو المقبل, يشكل تظاهرة دعم للرئيس حميد كرزاي. هذا علاوة علي أن المكون المناهض لتنظيم القاعدة في القوة الفرنسية, يعد مهما جدا بالنسبة للرئيس ساركوزي, حيث اكتشفت أجهزة الاستخبارات أن الشبكات المسماة بالجهادية, المتمركزة في وزيرستان الباكستانية, والنشطة في أفغانستان قد أقامت صلات مع مجموعات تنتمي لتنظيم القاعدة في شمال إفريقيا وهي تشكل تهديدا لأؤروبا. ورقة أفغانستان أيضا هي ورقة تفاوض قوية ورابحة لابد أن يستخدمها ساركوزي في المباحثات الخاصة بعودة فرنسا الكاملة الي الأطلسي. الرئيس ديجول كان قد قرر في7 مارس1966 انسحاب القوات الفرنسية من البناء العسكري المندمج للحلف وذلك في إطار خطة لأن تكون لفرنسا سياستها الدفاعية المستقلة ديجول منذ أن عاد للسلطة في1958 رأي أن الوقت قد حان لفرنسا لكي تعلن استقلالها وتتحرك بمفردها في أوروبا وفي العالم وأن تطور قوة نووية تكون رادعة لكل من يجرؤ علي مهاجمتها. في1958 كتب الجنرال ديجول مذكرة لأيزنهاور ولرئيس وزراء بريطانيا مكميلان, يقول فيها إن حلف الأطلسي( الناتو) يتعين أن يمتد نشاطه ليشمل العالم بأسره ويتعين أن يقود الحلف ثلاث دول, وليس فقط الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وجاء الرد غير مرض ومن ثم بدأ ترتيباته سحب الأسطول البحري الفرنسي من قيادة الأطلسي في مارس1959 وحظر تمركز أسلحة نووية أمريكية علي الأراضي الفرنسية وأعاد القوات الجوية الفرنسية الي القيادة الوطنية, وأكد ضرورة التقدم بطلب مسبق كي تستطيع طائرات الحلفاء عبور المجال الجوي الفرنسي, وقرر أن يعطي الأولوية للبرنامج النووي الفرنسي, وتم إجراء أول تجربة لقنبلة ذرية فرنسية في13 فبراير1960. وفي أول يوليو1966, خرج ممثلو فرنسا من مواقعهم في القيادة العسكرية لحلف الأطلسي. شيراك دعا بعد وصوله الي قصر الإليزيه الي مشاركة أكثر توازنا مع حلف الأطلسي بين الولاياتالمتحدة وأوروبا ودعا الي ركيزة أوروبية في إطار الأطلسي واقترح عقد صفقة مع الأمريكيين بأن فرنسا يمكن أن تندمج بالكامل في الأطلسي مقابل اضفاء الطابع الأوروبي عليه وهو ما تمت ترجمته علي أنه طلب, بإعطاء قيادة الجنوب لفرنسا غير أن الطلب لم يلقي قبولا لدي واشنطن كما سبق وحدث مع الجنرال ديجول. إلا أن هذا لا يمنع حقيقة أن شيراك عاد بفرنسا للمشاركة في كل محافل الحلف, باستثناء لجنة السياسات النووية ولجنة التخطيط وفرنسا في طليعة الدول المشاركة في جميع عمليات الحلف. والرئيس ساركوزي في كلمته أمام الكونجرس الأمريكي في نوفمبر2007 أعلن أنه اذا كانت فرنسا قد تركت القيادة المشتركة للحلف, بمبادرة من الرئيس ديجول إلا أنها تشارك اليوم في معظم أجهزة الحلف وهي في مقدمة الدول المساهمة فيه. ساركوزي أشار الي أن فرنسا يمكن أن تعود للقيادة المشتركة للحلف, ولكن هذا مرهون بتطور ركيزة الدفاع الأوروبية فكلما اقتربت أوروبا الدفاع من الوصول الي غايتها كلما صممت فرنسا علي استعادة مكانها كاملا في الأطلسي.. ويشترط ساركوزي أن يعود الحلف للتركيز علي توجهه العسكري وأن يحصل الأوروبيون خاصة فرنسا علي المزيد من المراكز في القيادة المشتركة وأن تحقق أوروبا الدفاع استقلالية حقيقية عن الاستراتيجيات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة. ويدعو ساركوزي الي أن يضطلع الأوروبيون بمسئوليتهم وبدورهم بالكامل, في خدمة أمنهم, وأمن العالم, والي أن يتحمل كل واحد في أوروبا نصيبه في الأمن المشترك فلا يجوز أن تستمر أربع دول فقط, هي التي تدفع من أجل أمن كل الدول الأخري. غير أن طموح ساركوزي ومن قبله شيراك في تطوير واستقلالية قوة الدفاع الأوروبية يصطدم بعقبات حقيقية, يصعب تجاوزها ليس أقلها شأنا أن الولاياتالمتحدة لم تقبل أبدا أن تكون شيئا آخر سوي مكملة لحلف الأطلسي الذي كونته تحت ارادتها وفي خدمة استراتيجيتها أداة للدفاع عن مصالحها. فالأطلسي أريد به منذ الحرب الباردة أن يكون وسيلة لتوحيد سياسات الدول الأوروبية تحت وصاية واشنطن, ودفاع أوروبا سيظل في الأفق المنظور هو مسئولية الأطلسي, أي بالاسهامات والقرارات الصادرة عن الولاياتالمتحدة وأي من البلدان ليست لديها الارادة في الابتعاد عن القوة الأمريكية وليست لديها الرغبة في أن تتخلي عن رفاهية الارتياح المالي الناجم عن هذا الاعتماد. وأوروبا لن تستطيع بناء نفسها كقوة عالمية جيوبوليتيكية, ما لم تخرج من الوصاية العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وأوروبا الدفاع حاليا, تحددت وفق معاهدات واتفاقات أوروبية وأيضا وفق معاهدات مع حلف الأطلسي, ومن ثم مع الولاياتالمتحدة. وهناك تساؤل أيضا هل ستوافق لندن وبرلين المتمسكتان بالرابطة الأطلسية علي الجهود المبذولة لصالح أوروبا الدفاع مقابل عودة فرنسا لحظيرة الناتو؟ وفرنسا ساركوزي تستعد حاليا لإطلاق عملية تقارب مع حلف الأطلسي, من ثلاث خطوات... الأولي.. هي قمة بوخارست الأطلسية ال59, وكدليل علي حسن الارادة, من المنتظر أن يعلن ساركوزي تعزيز الوجود العسكري الفرنسي في أفغانستان, علي الأقل بألف رجل كما يتعين أيضا أن ينضم ساركوزي الي استراتيجية مشتركة, تضمن وفق ما تتمناه واشنطن, أن يبقي الحلفاء خمس سنوات علي الأقل في هذا البلد, حيث يراهن الأطلسي هناك علي مصداقيته. ومن المنتظر أن يرد الأطلسي علي هذه المبادرة, بإعلان أنه سيعقد القمة الستين المقبلة في ستراسبورج وكيهل, علي جانبي الحدود الفرنسية الألمانية, وستكون هذه المرة الأولي منذ أكثر من50 سنة التي تنعقد فيها مثل هذه القمة في فرنسا. بقي أن نشير الي أن وزير خارجية فرنسا الأسبق هوبير فيدرين قد حذر في التقرير الذي رفعه الي الرئيس ساركوزي, من فقدان فرنسا لنفوذها اذا ما فقدت استقلاليتها تجاه الولاياتالمتحدة, واذا ما انحازت بشكل أعمي الي الأطلسي, ان عودة اندماج فرنسا في الأطلسي يمكن أن يكون خيارا... شريطة أن يصاحبه اعتراف باستقلالية الركيزة الأوروبية( في شكل قيادة أوروبية مستقلة).. ورد الاعتبار للمناظرة الاستراتيجية فيما بين حلفاء.. وليس بين توابع. هذا مع التدقيق في حسابات المكسب والخسارة.. ما له وما عليه, خاصة أن البعض في المناطق الأخري من العالم, سينظر الي هذا الاندماج علي أنه نهاية الخصوصية الفرنسية ونهاية استقلالية فرنسا عن الولاياتالمتحدة وقراراتها تلك الاستقلالية التي أرادها ورسخها ديجول. وهو ما يمكن أن يشكل مخاطرة, في وقت يتحول فيه حلف الأطلسي الي حلف دولي ضد ما يسمونه الإرهاب, مما يجعله يبدو كسلاح الغرب ضد المسلمين, أو صدام الحضارات والديانات.. وهو ما يختلف تماما عن استراتيجية ساركوزي..