كيف لا يقف الزمان وتبكي الدنيا وتضحك في وقت واحد أمام كل هذا الجمال، فالرجل لم يترك معنى بداخلنا إلا وزيّنه بموسيقاه، حتى الفصول الأربعة كتبها شعرًا وغلّفها بلحن بارع شاركته في غنائه المطربة سوزان عطية، جرب أن تقف أمام هذا الرجل، وما بين الشعر والنغم تجده تركيبة لا يمن بها الزمن مرة أخرى، فالحب وحده طوع قلبه، فكتب كلامًا طيبًا عن الهوى، أما جمله الموسيقية فكل عشاق بليغ حمدي الملقب ب"ملك الموسيقى" يعرفون أنها تحمل رائحته وقبل أن ينطق المطرب بحرف واحد يؤكد "السميع" أن روح بليغ ترفرف على المكان. زي الزمن مازالت النوتة الموسيقية شاهدة على هذه الأغنية، تحكي كيف قضى بليغ وقت طويلًا يكتب ويشطب ويبدأ من جديد، الصورة كانت باهتة بعض الشئ، هنا كتب بخط يده مطلع جديد وهناك رتّب الكلمات قبل التسجيل مباشرة. الأغنية كتبت تقريبًا خلال فترة غربته في باريس، الوجع الذي كتب به بليغ هذه الأغنية يؤكد ذلك، إذ غنتها المطربة الراحلة ذكري، والتي راهن عليها بليغ وكان يحضر لإطلاقها كما فعل مع ميادة الحناوي وسميرة سعيد مثلًا. "زي الزمن بايع في ليلة زي زي شاري في ليلة".. كان العتاب واضحًا، ربما قصد الفنانة وردة أو فعلًا كان يلوم الزمن الذي بعده عن وطنه، فكل أصدقاء بليغ أكدوا أنه كان يعشق تراب مصر لدرجة أنّه كان لا يكتب اسمه على الأغاني التي كتبها، إذ كان دائمًا يستبدله ب"ابن النيل" أو يضع عليها اسم شاعر آخر على سبيل المجاملة. الحزن كله كان في صوت بليغ وهو يغني "زي الزمن"، جرب أن تسمعه وهو يغني: "زي الزمن يسرق ربيعك/ زي الزمن تدبل يبيعك/ يرميك وينسي أنت مين/ ويدوس على عشرة سنين/ وله دموع لو حب يوم يبكي يلاقيها/ وله ف حلال ولا ف حرام دي حاجات نسيها". يا وابور هذه الأغنية كتبها أثناء الغربة، فهناك كانت الأوضاع سئية جدًا، إذ عرفه المرض وسكن جسده النحيل، ولما زاد الوجع بفراق أحبته والبعد عن وطنه، كتب "يا وابور" وغنتها ذكرى أيضًا، وتقريبًا لم يؤديها هو بصوته، فلا يوجد تسجيل نادر لهذه الأغنية بصوت بليغ في ذاكرة "اليوتيوب". الجمل الشعرية المختلفة كان يطوّعها بليغ بشكل مختلف لم ينجح فيه أحد غيره، فلك أن تتخيل حجم معاناته في كلمتين فقط هما "ملناش مسنين"، ويقصد هنا أن لا أحد ينتظره، إذ كتب في مطلع الأغنية: "يا وابور يا مروح بلدي بلغ/ بلغ/ حتبلغ مين/ مبقاش لنا حد فى بلدي/ ملناش مستنين/ ملناش يا وابور". ويصف بليغ شعور أهل بلده تجاه في المقطع الثاني فيقول: "يا وابور قالولى أهلك بلدك متغيرين/ قلتلهم أهل بلدي طول عمرهم قادرين/ يغيرو بضحكتهم فى ألوان السنين/ ويخلو المُر يحلى بضحكة وكلمتين/ يا وابور روح وتعالى/ احكي للحاضرين عن أهلنا وبلدنا/ أمّا أحنا المنسين.. مبقاش لنا حد في بلدي". بودعك هي الأخرى كتبها بليغ في الغربة، كل الكلام في هذه الأغنية يحمل ذكريات خاصة له مع حبيبته وشريكة عمره الفنانة وردة، الوجع أيضًا كان حاضرًا، حتى ألم الفراق والفقد كان يلف صوت بليغ وهو يغني المقطع الأول للأغنية في إحدى التسجيلات النادرة له، وقيل أنّ الفنانة المغربية ليلى غفران كانت مرشحة لغناء هذا العمل. وهناك أيضًا من أكد أن بليغ ودّع الوطن في الأغنية نفسها، خصوصًا في جملة: "بودعك وبودع الدنيا معك / قتلتني جرحتني وغفرت لَكْ قَسْوتك"، نظرًا لما عاشه من ظلم وقسوة بعد حادث مقتل الفنان سميرة مليان في منزله، إذ غادر مصر لمدة خمس سنوات قضاها في باريس وغيرها من الدول، وكانت أسوأ سنوات عمره، حيث تدهورت حالته الصحية، وفي منفاه الإجباري أرسل لوردة أغنية «بودعك»، وكانت آخر ألحانه لعشقه الفني والإنساني الوحيد وردة. تبدأ حكاية الأغنية من عام 1979، وقت انفصل الثنائي بليغ ووردة إنسانيًا وفنيًا، بعد طلاقهما بهدوء شديد وسط دهشة كبيرة داخل الوسط الفني وخارجه. تقول وردة في أحد حواراتها: «بالرغم من حبي الكبير لبليغ ونجاحنا في تجاوز العديد من العقبات والأزمات، إلّا أنني لم أستطع تجاوز العقبات معه كزوجة، فقد كان دائم السهر وتعدّدت علاقاته العاطفية التي كنت أعرف بعضها وأقرأ البعض الآخر منها في الصحف.. فكان لابد من الانفصال». «بودعك/ وبودع الدنيا معك/ جرحتني.. قتلتني/ وغفرت لك قسوتك». كان بليغ يشعر بقرب النهاية، وتضاءل أمله في عودة وردة إليه وثبوت براءته في قضيته، لكن الأقدار أبت أن يموت بليغ مظلومًا فتم الحكم ببراءته، وعاد إلى مصر وقلبه منهك بجرح غائر بين ظلم وقع عليه وبين قصة حب فاشلة وأخرى لم تكتمل وأخرى أصبحت حدوتة. بعد عودة بليغ إلى مصر ازدادت صحته تدهورًا، فغادر مصر للمرة الأخيرة متجهًا إلى باريس لاستكمال علاجه، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة وتمزقت أوتار عوده الشجى الحزين لتكف عن العزف إلى الأبد، مات بليغ غريبًا لكنه أبى ألّا أن يدفن في تراب مصر. مات بليغ في 17 سبتمبر عام 1993 ليشيع في جنازة مهيبة.. بعد رحلة حياة مليئة بالعطاء رغم قصرها. الفصول الأربعة في 5 دقائق فقط، غني بليغ كل تفاصيل الأيام من خلال أربعة مقاطع وصف فصول العام من خلالها، حيث قسّم الفصول بينه وبين الفنانة سوزان عطية، الأغنية تحدثت عن فصول العام الأربعة بترتيب قدومها واقتران كل فصل بالحالة الخاصة به. الشتاء.. حبيب قاسي لكنه بدأ بليغ وغنى للشتاء بنبرة لا ينقصها الدفء قائلا: «رياح وموج وبرد بيهدوا أي حد/ لكن دمعه بيحينا/ يمطر الخير يجينا/ حبيب قاسي لكنه الخير بيجي منه». الربيع.. زهور مالية المدينة الفصل الثاني كان من نصيب سوزان عطية، فغنت الربيع وجماله في دقيقة تقريبًا، «شباب أفراح وزينة/ زهور مالية المدينة/ وهواه بينادي شوقنا/ بيصحي في قلوبنا/ طيور ألوان تزورنا/ تغني فوق ديارنا أغنانيها السعيدة لأيامنا الجديدة». الصيف.. أسمر دمه خفيف عاد بليغ وانفرد بكل تفاصيل فصل الصيف، فكان في نظره ضيف لا أكثر، «يجينا زي الضيف/ أسمر دمه خفيف/ البحر يفرح بيه/ تحلي الليالي بيه/ واللي بعيد تلاقيه/ على شطه وتناديه/ وتبدي حكايات على الرملة ونهايات». الخريف.. سكون وشيء مخيف النهاية كانت عند سوزان عطية، إذ غنت الخريف وكأنه عجوز وحيد يبكي منفردا.. «ورق وناس تدوسه/ بعد ما كانت تبوسه/ أشجار أوراقها سافرت وعجوز سانداه الصبية/ مشاوير العمر عدت/ وسنين محنية/ سكون وشيء مخيف في أيام الخريف». الحب اللي كان الكل أجمع أنّ هذه الأغنية كانت رسالة لوم وعتاب موجهة أيضًا إلى الفنانة وردة، بليغ نفسه أكد هذا الكلام في حوارٍ له، إذ استخدم ميادة "مرسال غرام" بينه وبين وردة، فاستطاع أن يبرز معاناته خاصة في مقطع هام من الأغنية وهو: «يا حبيبي جيت أنا ليه الدنيا ديا .. إلّا عشان أحبك.. عشان يدوب عمري .. من جرح غدرك بدري.. شمعة ورا شمعة .. وتعيش إنتَ لفرحك .. حبيبي فداك أنا وسنيني اللي جاية ..فداك قلبي اللي حبك»، منتهى اختلاط المشاعر وكأنه يحكي عن رفضها للانجاب وحرمانه منه وبين كرهه لفعلها وحبه الدائم لها لم يستطع إلّا أن يصاب بهذه الدوامة من المشاعر التي سردها في كلمات وألحان كانت أعظم ما غنت ميادة الحناوي.