كنت أنوى اليوم استكمال حديث أمس عن علاقة البؤس العمدى الشامل «المادى والعقلى والروحى» بظاهرة غول العنف المنفلت الذى يضرب وينهش حاليًا فى أحشاء مجتمعنا بتجليّات وصور مختلفة، وقد كتبت فعلًا أغلب سطور المقال، لكن وحش التكنولوجيا الذى لم أنجح فى ترويضه حتى الساعة، أكل هذه السطور بعدما اختطفها فجأة من على شاشة جهاز «الكمبيوتر»، وقد اختار الوحش الندل موعدًا حرجًا جدًّا لتنفيذ فعلته النكراء، إذ كان الزملاء فى «التحرير» بدؤوا بالفعل الإلحاح و«الزن» اليومى، بالسؤال التليد: أين المقال يا أستاذ.. تأخّرنا؟! عندئذ اضطررت للبحث والتنقيب فى دفاترى القديمة حتى وجدت ضالتى.. سطورًا كتبتها من أربع سنوات وبدت لى استطرادًا للكلام المنشور هنا أمس. أترككم للمقال القديم، مع وعد بكلام جديد فى الموضوع نفسه، غدًا إن شاء الله.. «من عادة البؤس أنه قد يبدأ مسيرته الرهيبة من الاقتصاد والاجتماع، لكنه لا يتوقّف أبدًا بعد ذلك عند بطون الناس الخاوية وأجسادهم الهزيلة التى تعربد فيها شتى صنوف العلل والأمراض، وإنما يتمادى ويستفحل فيعصف ويسحق فى طريقه العقول والأفهام والأرواح، بل والأخلاق والضمائر أيضًا.. هنا بالضبط تكتمل مهمة البؤس ويقعد مستقرًا مرتاح البال ومتهنّى. وقبل أيام قليلة أعلن المركز الثقافى البريطانى فى القاهرة إغلاق مكتبته العامة تمامًا ونهائيًّا لأن (المصريين لا يقرؤون وليسوا من محبّى الكتب).. هذا ما لاحظه مدير المركز (بول سميث) الذى دعم ملاحظته ببيانات وأرقام مخجلة عن أعداد الذين يتعاملون مع المكتبة حاليًا، مما يجعل استمرار الإنفاق على بقائها مفتوحة كما كانت على مدى عشرات السنين، ضرب من العبث والإهدار السفيه لأموال الشعب البريطانى!! هذا الخبر قد لا يعنى شيئًا لمن هدموا وأعادوا هندسة مجتمع المصريين المحدثين هندسة عكسية وجعلوه خرابة مترامية الأطراف، بحيث صرنا نندفع ونتقدَّم يوميًّا إلى الوراء ونصعد عاليًا إلى الدرك الأسفل.. نشرب من المجارى ونأكل ما تعافه كلاب السكك، وكما نتلقى التشريعات وتهبط على رؤوسنا (السياسات) من حيث يجلس ويتربع قطعان حرامية الغسيل الهاربة من تخشيبة سجن الترحيلات، فقد أضحينا نتلقّى المعرفة والثقافة من جيوش النصابين والنشالين المسلحين بالأمية والجهل، خصوصًا هؤلاء المتاجرين على الأرصفة والشاشات ليل نهار بالشعارات والفتاوى الدينية!! أعتذر عما قلته فى مطلع الفقرة السابقة، فالحقيقة أن خبر إغلاق مكتبة (أى مكتبة) يهم ويسعد جدًّا كل هذه الجيوش والقطعان، لكنه أدخل العبد لله فى أجواء فيلم (فهرنهايت 451) المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه، كتبها الروائى الأمريكى (راى برادبرى)، وفتحت أمامه أبواب الشهرة والذيوع بعدما اقتبسها فى عام 1966، (فرانسوا تروافو) الذى يقف بجوار (جان لوك جودار) و(آلان رينيه) كأحد أبرز مخرجى ما سمى فى ستينيات القرن الماضى سينما (الموجة الجديدة) الفرنسية.. رقم 451 الموجود فى العنوان هو درجة الحرارة المناسبة لحرق الكتب طبقًا لوحدة قياس (فهرنهايت) التى تعتمدها أجهزة الدولة الإرهابية الفاشية، بينما هى تمد سطوتها وتسلّطها إلى عقول الناس وتظهر عداء واحتقارًا شديدين للمعرفة والثقافة مجسّدة فى الكتب بالذات، حتى إنها أسّست هيئة حكومية كاملة مهمتها تلقى البلاغات والوشايات عمن يحوزون هذا الصنف، فإذا ثبت صحة أحدها تتحرّك على الفور وحدات الفرقة المذكورة لحرق الكتب وإبادتها واعتقال من ضُبطت بحوزتهم ورميهم فى السجون أو المصحات العقلية. الشخصية المحورية فى الرواية والفيلم يدعى (جاى مونتاج)، يعمل مجندًا فى وحدة من هذه الوحدات، وهو يؤدّى عمله ويشعل الحرائق فى الكتب بطريقة روتينية وبغير عواطف سلبية أو إيجابية وإنما كواجب وظيفى فحسب، إذ إنه لم يختر تلك المهنة بل ورثها عن أبيه الذى ورثها بدوره عن جد (مونتاج)، غير أن هذا الأخير يلتقى ذات مساء بجارته الحسناء (كلاريسا ماكليلان) الموصوفة بأنها ربما مجنونة أو بلهاء، فقط لأنها تبدو وكأنها تفكّر ولا تكف عن طرح أسئلة تبدأ كلها ب(لماذا)!! تصيب (كلاريسا) جارها (مونتاج) بعدوى التفكير المحظور أساسًا، فيتجرّأ ويسأل نفسه عن معنى حياته ومعنى السعادة، ومن هذه الأسئلة تبدأ مسيرة تحولاته الفكرية التى ستزداد وتيرتها بقوة بعد أن يشارك فى حرق مكتبة سيدة عجوز أصرّت أن تبقى وسط النار المشتعلة فى كتبها وماتت معها، ثم لم يمض وقت طويل حتى أوصلته هذه التحولات إلى العصيان والتمرد النهائى، ليس فقط على مهنة حرق الكتب، ولكن على النظام القمعى كله الذى صادر عقله واستلب أرواحهم وأدمغة الناس.. وفى النهاية ينخرط (رجل النار) فى جماعة المثقفين المناضلين من أجل استعادة العقول والأرواح السلبية، بل ويذهب معهم إلى المكان النائى الذى يتحصّنون فيه من البطش، حيث يمضون أوقاتهم يتمتمون ويحفظون الكتب، وقد تسمى كل واحد منهم باسم كتاب معين ومؤلفه، فهذا كتاب (جمهورية) أفلاطون، وذاك (هاملت) شكسبير، والآخر حافظ كتاب (العهد القديم) أو (الكوميديا الإلهية) لدانتى.. وهكذا صار الجميع بمن فيهم (حارق الكتب) السابق كتبًا من لحم ودم تستعصى على الحرق وتحفظ المعارف الإنسانية إلى حين الخلاص».