«من عادة البؤس أنه قد يبدأ مسيرته الرهيبة من الاقتصاد والاجتماع، لكنه لا يتوقف أبدا بعد ذلك عند بطون الناس الخاوية وأجسادهم الهزيلة التى تعربد فيها شتى صنوف العلل والأمراض، وإنما يتمادى ويستفحل فيعصف ويسحق فى طريقه العقول والأفهام والأرواح، بل والأخلاق والضمائر أيضا.. هنا بالضبط تكتمل مهمة البؤس ويقعد مستقرا مرتاح البال ومتهنيَّا». هذه كلمات قديمة كتبتها قبل نحو ثلاثة أعوام، مستهلا بها تعليقا حزينا على خبر أثار وقتها ضجة كبيرة مختصرة أن المركز الثقافى البريطانى فى القاهرة قرر إغلاق مكتبته العامة تماما ونهائيا لأن «المصريين لا يقرؤون وليسوا من محبى الكتب».. وهذا هو نص ما قاله آنذاك الخواجة مدير المركز، مدعما حكمه القاسى ذاك ببيانات وأرقام مخجلة عن أعداد الذين ما زالوا يتعاملون مع المكتبة، مما يجعل استمرار الإنفاق عليها ضربا من العبث وإهدارا سفيها لأموال الشعب البريطانى!! واليوم أستحضر التعليق القديم هذا بمناسبة خبر آخر مستجد، أظنه أسوأ وأكثر بلاغة فى التعبير عن حالتنا الراهنة.. الخبر الجديد ليس منشورا، وإنما سمعته من صديق، بينما كنا نتسامر ونتسلى بالطرائف المضحكة المبكية التى يجترحها الإخوة السلفيون هذه الأيام، وآخر حوادث عربداتهم الظلامية الجهولة، لا سيما بعدما أعلن فريق منهم تأسيس جماعة ستتولى بالعافية والإرهاب فرض الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف (العبارة السابقة صحيحة وأقصدها تماما). فأما خلاصة ما أنبأنى به صديقى هو أن جماعة «المنكر» آنفة الذكر بدأت شغل البلطجة فعلا، وأن باكورة نشاطها الإجرامى لم يقتصر على اقتحام حياة الناس والعدوان على حرياتهم الشخصية، بل وصل إلى محاولة إشاعة الظلام العقلى على ما تشير حادثة غريبة شهدتها بلدته (غير البعيدة عن القاهرة) الأسبوع الماضى، إذ قام قطيع من الدهماء يجمعهم الجهل وطول اللحية بتهديد رجل عجوز ينصب من سنين طويلة فرشة لبيع الكتب القديمة، بأنهم سيحرقون فرشته إذا لم يستجب لأوامرهم ويتخلص مما سموه «كتب الكفر» التى يعرضها.. ما هى كتب الكفر تلك؟! نسخ متناثرة من روايات لإحسان عبد القدوس، وأمين يوسف غراب، ونجيب محفوظ!!! و.. أعود إلى سطور التعليق الحزين القديم فقد جاء فيه: هذا الخبر المؤسف ذهب بى إلى أجواء فيلم «فهرنهايت 451»، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه ألفها الكاتب الأمريكى راى برادبرى واقتبسها فى عام 1966 فرانسوا ترافو، أحد أبرز مخرجى ما سمى فى ستينيات القرن الماضى سينما «الموجة الجديدة» الفرنسية. رقم «451» المعنون به الفيلم والرواية هو درجة الحرارة المناسبة لحرق الكتب طبقا لوحدة قياس «فهرنهايت» التى تعتمدها أجهزة دولة إرهابية وفاشية (خيالية)، بينما هى تمد سطوتها وتسلطها إلى عقول الناس وتظهر عداء واحتقارا شديدين للمعرفة والثقافة مجسدة فى الكتب بالذات، حتى إنها أسست هيئة حكومية كاملة مهمتها تلقى البلاغات والوشايات عمن يحوزون هذا الصنف من وسائل المعرفة، وبناء عليه تتحرك وحدات الفرقة المذكورة لحرق الكتب وإبادتها، واعتقال من ضبطت بحوزتهم ورميهم فى السجون أو المصحات العقلية. الشخصية المحورية فى الرواية والفيلم يدعى «جاى مونتاج» يعمل مجندا فى وحدة من هذه الوحدات، وهو يؤدى عمله ويشعل الحرائق فى الكتب بطريقة روتينية وبغير عواطف سلبية أو إيجابية، وإنما كواجب وظيفى فحسب، إذ إنه لم يختر تلك المهنة، بل ورثها عن أبيه الذى ورثها بدوره عن جد «جاى»، غير أن هذا الأخير يلتقى ذات مساء بجارته «كلاريسا ماكليلان» التى يشاع عنها أنها ربما مجنونة أو بلهاء، فقط لأنها تبدو وكأنها تفكر ولا تكف عن طرح أسئلة تبدأ كلها ب«لماذا»! ومع تتابع مشاهد الفيلم نرى كيف نجحت «كلاريسا» فى نقل عدوى التفكير (المحظور أساسا) إلى جارها «مونتاج»، فإذا به يتجرأ ويبدأ فى سؤال نفسه عن معنى حياته ومعنى السعادة.. إلخ، ومن هنا تبدأ مسيرة تحولاته الفكرية التى ستزداد وتيرتها وسرعتها بعد أن يشارك فى حرق مكتبة سيدة عجوز أصرت أن تبقى وسط النار المشتعلة فى كتبها وماتت معها. لم يمض وقت طويل حتى أوصلته هذه التحولات إلى العصيان والتمرد النهائى، ليس فقط على مهنة حرق الكتب، ولكن على النظام القمعى كله الذى صادر عقله واستلب أرواح الناس وأدمغتهم.. وفى النهاية ينخرط «رجل النار» فى جماعة المثقفين المناضلين من أجل استعادة العقول والأرواح السلبية، بل ويذهب معهم إلى المكان النائى الذى يتحصنون فيه من البطش، حيث يمضون أوقاتهم يتمتمون ويحفظون الكتب، وقد تسمى كل واحد منهم باسم كتاب معين ومؤلفه، فهذا كتاب «جمهورية أفلاطون»، وذاك «هاملت» شكسبير، وآخر تقمص كتاب «العهد القديم» أو «الكوميديا الإلهية» لدانتى.. وهكذا صار الجميع «كتبا» من لحم ودم تستعصى على الحرق وتحفظ المعارف الإنسانية لحين يأتى الخلاص!