لا أعرف على وجه الدقة، لماذا ذهب فاروق حسنى إلى انتخابات التصفية فى باريس لرئاسة اليونسكو. بل ولماذا تم ترشيحه. من المفترض أنه خبير بالعقلية الغربية، لأنها ليست وليدة اللحظة فقد عاصرها السيد الوزير زمن إقامته فى باريس وروما أيام الحرب الباردة، وهى ذاتها التى تشكلت منذ عصر الثورة العلمية الثانية مع بدايات القرن الماضى، وتأكدت وأثريت فى النصف الثانى من ذات القرن. أى أننا عاصرناها على مدى قرن كامل وازدادوا تسعاً من هذه الألفية. فاليونسكو مؤسسة عالمية وليس دكاناً للبقالة يمكن إدارته بالأهواء وعلى طريقة صاحب المحل. اليونسكو مثل السيارة أو الطائرة كل لها قوانينها الخاصة الحتمية مهما كانت مهارة السائقين. فمنذ وقعة الابتزاز لحرق الكتب فى مجلس الشعب تحددت نتيجة انتخابات اليونسكو. فكان الترشيح ثم التصميم على الفوز يبدو غير منطقى فى العقل الأوروبى والعالمى. ولو كان هناك أحد فى مؤسسات الحكومة المصرية ويملك حساً بما يجرى عالمياً، وكيف تشكلت ذهنية الإنسان فى القرن العشرين لنصح الرجل بالانسحاب. لكنى وعلى ما اعتقد بأن الجميع تركها للمشيئة وقوانين الغيب، حسب ما ترى ثقافة الشارع المصرى بثقافته الغيبية، فربما تأتى الرياح بما تشتهى الترشيحات، فلا يعلم الغيب إلا الله. فالمؤسسة فى العالم الحديث تدار بقوانينها الذاتية ولا ضرورة لرئاستها إلا بقدر وجود عقل متزن ناضج وغير مروض عصبياً ونفسياً على قمة إدارتها. لكن واقعة مجلس الشعب المصرى أوضحت أن ذهنية فاروق حسنى هى انفعالية لا تملك التوازن الكافى والسيطرة النفسية المطلوبة حتى، ولو كان المثير الخارجى ممكنا إحتماله. فما بالنا والدين هو الضحية فى اتهامات العضو الإخوانى المتأسلم. فكما يختار الأفراد للمهام الخطرة بناء على مواصفات علم النفس والسلوكيات، فإن خيارات الوظائف الكبرى تجرى على نفس المنوال. ذهب حسنى ومعه كثير من الإبداعات والمبادرات (حسب قوله) ليجتاز الانتخابات، وهو أمر مطلوب وضرورى، مثلما كان فى جعبة المرشحين الآخرين لما هو أكثر، فما أكثر إبداعات أوروبا. وكان على المرشح المصرى أن يستعرض الحياة الشخصية والفردية والسلوكية لباقى المرشحين قبل أن يجازف بالاستمرار فى المسابقة. فلن يعدم أحد المبادرات ولن يتوقف العالم عن الإبداعات، لكن تبقى المواصفات الشخصية والذهنية والعقلية للمرشح فاصلاً فى الاختيار. خاصة وأن السيد فاروق قادم من عالم العرب والإسلام، الموضوع فى قفص الاتهام عالمياً. قدم عضو الإخوان المسلمين فى مجلس الشعب استجوابا للوزير بوجود كتب إسرائيلية فى مكتبة الإسكندرية تسب الإسلام ودين الأمة. وكان موقف الوزير معروفاً للجميع فتطوع برد فعل عصابى وانفعالى بأنه لو وجدت هذه الكتب لكان أول من يحرقها. مما استدعى الاعتذار فيما بعد الترشيح عما بدر منه كرد على النائب الإسلامى. جاء الاعتذار بعد أن قدمته الحكومة المصرية مرشحاً للمنصب. وكان الاعتذار بمثابة وضوء مما لحق به من نجاسة فى عرف العالم، وليس الإسلام الذى احتقن الوزير دفاعا عنه. فمدير اليونسكو الافتراضى والمرشح للمنصب رسب فى امتحان القبول للترشيح، قبل أن ترشحه الحكومة. فأصبح عضو جماعة الإخوان مندوب إسرائيل فى اختبارات كشف الهيئة على الوزير. فاليونسكو ليس فى خدمة الإسلام أو اليهودية، إنما هو خادم للتراث العالمى بأجمعه دون تفرقة. رسب الوزير الفنان والمبدع فى كشف الهيئة فى مجلس الشعب المصرى، لأنه كان مهموماً بصورته أمام رجل الشارع وأمام الجماعة المحظورة كمعارضة مفتعلة (irtual opposition)، رغم أن من مواصفات المبدع ألا تكون عينه على المتلقى أو المشاهد أو القارئ أو المستمع، فالمبدع لا علاقة له بشباك التذاكر أو بعدد زبائن الدكان، ومدى توفر السلع التموينية. الإبداع يقع فى منطقة بعيدة عن حسابات المكسب والخسارة، فحسنى فنان، حسب ادعائه، ويعرف تماما هذه الأمور. فهل وجوده فى حكومة المليارديرات والطائرات الخاصة وتجارة السيراميك قذفته بعيدا عن الفن والثقافة، فكان الانفلات والبعد عن رد فعل عقلى رصين ورزين متوازن وقوى هو من المواصفات التى لا ترتضيها الاختيارات الدولية للمناصب العالمية؟ فما أن اتهمه الإخوانجى حتى انتفض المستوزر (مصدر ميمى لوزير) بالتطهر والاغتسال من تلك التهمة باستخدام النار رغم أن الوضوء إسلاميا بالماء. لم يتمالك الوزيرالمحتقن إسلامياً نفسه ولم يسعفه قول القرآن "هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" فالمكتبة مفتوحة للجميع. ولم تسعفه قدراته الإدارية (كمدير مستقبلى لليونسكو) قولا بأنه سيعود للمسئول عن المكتبة وهو موظف، وكان مرشحاً، تحت إمرة الوزير للسؤال بحثا عن مدى صحة المعلومات. لم يرد الوزير بما هو أكثر تعقلا بالقول إنه لو هناك كتب إسرائيلية فهذه ليست سبة ولا تهمة، حتى ولو كان بها نقد للإسلام، فالإسلام أيضا ينقد باقى الأديان، ولن يرحمنا أحد لو بقينا على هذا الحال. مثل هذا الرد كان قمينا بوقف الانحرافات الفكرية والثقافية فى عقل رجل الشارع، والتى تغاضت عنها الثقافة المصرية الحالية بوزارتها، فجعلت الشارع المصرى يخطو نحو النموذج الطالبانى ولو على مهل. لم يختلف الوزير كثيراً عن رجل الشارع ذى الثقافة المتواضعة، فذهب إلى حالة هياج دينى له أسبابه فى أداء الوزارة، التى تخلت عن حاضر الثقافة فى مصر وعن مستقبلها أيضا فى عالم العولمة والانفتاح. لكن ما يثبت الطرح السابق هو رد الفعل الانفعالى الزائد عن الحد فى التعامل مع نتائج الانتخابات بعد العودة. كان من المفترض لمن فشل فى الانتخاب ألا يقوم بمهاجمة لجنة الامتحان. كان من المفترض أن يدرك الرجل أن الرسوب له أسبابه بدون اللجوء إلى نظرية المؤامرة. لكن نظرية المؤامرة العربية من السهولة والبساطة والسطحية، وتجد لها رصيداً ضخماً فى الذهنية الانفعالية والعاطفية الشرقية، وهو ما اعتمدت عليه السياسة المصرية لإثبات صدق توجهاتها على مدى نصف قرن، وازدادوا تسعا أيضا. أما معالجة الأمور بالعقل والمنطق وحدهما فلم يرتق إليه أحد فى حكومتنا ولو كان فنانا. كان ولابد من اللجوء إلى العقل قبل وبعد الترشيح وقبل وبعد الانتخاب. فالعقل يجبرنا أن ندرك مدى خطورة منصب مدير عام اليونسكو، وغيره من المناصب الدولية، فهى تخضع برمتها لقانون التقدم الحضارى، بما فيها من كل أساليب الصراع والإبداع. فبعضها مكتوب ومتفق عليه وبعضها شفاهى مضمر فى الأعراف والسلوكيات بين الأمم. فإذا كانت عملية الانتخاب هى تسوية للصراع بأقل قدر من العنف مثله مثل العملية الديموقراطية فى إدارة سياسة كل مجتمع، فإن العقل والمنطق وليس الانفعال أو العاطفة هى أول ما يتقدم من أسلحة فى الحلبة. أما نكون صرعى نفسيين أو مصابين بحالة من الهوس والصرع الدينى فى تعاملنا مع بعضنا فى الداخل قبل وبعد الترشيح وقبل وبعد الانتخاب، فلا معنى لأى وجود لنا على الساحة الدولية، اللهم إلا إذا كانت هذه رسالة بأننا فى حاجة إلى علاج، وليس لقيادة طائرة أو حتى بسكليت بثلاث عجلات. يندرج السلوك الانفعالى ضمن أمراض علم النفس، ومن شاهد فيلم 451 فهر نهايت لأدرك مدى الحالة المرضية لمؤسسة مدنية كاملة اسمها هيئة المطافئ العامة فى تلك البلدة. أصبحت وظيفتها إشعال الحرائق وخاصة فى الكتب وليس إطفاء الحرائق، ولو كانت فى الممتلكات العامة والخاصة. أما الوزير الفنان فصرح بأنه سيحرق الكتب ولم يحرق شيئاً، فأدان نفسه وسلم نفسه دون فعل يؤاخذ عليه. لكن من ذا الذى يثق فى أصحاب الحالات الانفعالية؟ فمثقفو مصر العقلاء معرضون للمطاردة ويدفعون ظلما أثماناً باهظة لأنهم ارتكبوا إبداعاً. لكن الوزير حمل نفسه وزراً بنية الفعل وليس الفعل. فالمشايخ والمعارضة الإخوانية تلوح بحرق الكتب، لأنهم مشايخ. فهم معذورون. لكن أن يرقص الوزير على توعداتهم فتلك ثالثة الأثافى. وفى رحاب اليونسكو ارتكب وزراً آخر بغير قصد أيضا فقد أعلن أنه تنويرى، عندما دافع عن كل الكتابات التى اعتبرتها مؤسسة 451 فهرنهايت المصرية بكل أمراضها مستحقة للحرق، بينما هو وزير ثقافة ليس بيده حتى من جردل ماء لإطفاء أى حريق!!!!!!. صحيح أنه دافع عن إبداعات الكتاب والمفكرين المصريين لكن هؤلاء الكتاب مطاردون من نفس المعارضة المفتعلة ال (virtual opposition)، بل ويدفعون من جيوبهم ثمن برائتهم مثلما هو الحال مع الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى وحلمى سالم. هو لم يساهم فى إطفاء حرائق الشارع المصرى الحقيقية داخل عقل المواطن بتثقيفه، بقدر ما ذهب للدفاع عنها أمام اليونسكو ومعه تهمة حرق كتب غير موجودة. هكذا ترك المرشح الشارع المصرى بدون ثقافة وذهب يدافع عما أدانه جمهوره ومعه تهمة الشروع فى إشعال حريق فيها. لم يكن الوزير الفنان والحكومة السنية إلا ضحايا واقع مقلوب افتعلوه حفاظاً على أخلاق ليست من معايير هيئة اليونسكو ومعارضة مفتعلة تكره الوزبر والإبداع والفن والثقافة. فما هو تعريف الجنون اللهم إلا إذا كانت العوالم فى نظرنا نحن العالم الثالث كلها مقلوبة بما فيها إجراءات ومواصفات خيارات اليونسكو التى ليست مفتعلة. كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى فيلم 451 فهرنهايت متهمة فعلا وقولا، نظريا وممارسة لأنها تعرف ماذا تريد، حرق الكتب. لكن حسنى ذهب ومعه سجل حافل بالنوايا الغير حسنة مع غياب ذهنى لأكثر من عشرين عاما عن حال جمهور عريض فى حاجة ملحة إلى ثقافة جيدة، لم توفرها له وزارته، فلم يلقَ كتابه بيمينه فى يوم الحساب.