فى لحظة تُعاد فيها صياغة خرائط القوة فى الشرق الأوسط، وتتحرك فيها الأطراف الإقليمية والدولية على رقعة غزة المنهكة، برزت فكرة قوة حفظ الاستقرار كأنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد سنوات من الحروب والانقسام والدمار لم تعد غزة مجرد ساحة صراع بين طرفين، بل تحوّلت إلى مركز اختبار لإرادة المجتمع الدولى وقدرته على فرض حالة من الهدوء الدائم أو الانتقال إلى مرحلة جديدة تُنهى دوامة الانفجارات المتعاقبة. ففى اللحظة التى باتت فيها غزة تقف على حدود مجهولة، انفتح نقاش دولى واسع حول فكرة نشر «قوات حفظ الاستقرار» فى القطاع بعد الحرب، وهى فكرة تثير من الترقب بقدر ما تثير من الجدل، لأنها تحاول أن توازن بين مطالب الأمن الإسرائيلى، والاعتبارات الإنسانية، وتعقيدات المشهد الفلسطينى، وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية فى رقعة صغيرة لكنها شديدة الحساسية. اقرأ أيضًا | فلسطين.. السلطة تبحث عن «دور» والمقاومة «تتوجس» فكرة هذه القوات تبدو للوهلة الأولى كحل سحرى لفراغ ما بعد الحرب، لكنها فى العمق مشروع محفوف بالمخاطر، قد يحمى غزة من الفوضى كما قد يفتح بابًا جديدًا من الصراعات إذا لم يُصغ بدقة وذكاء. إن الحديث عن هذه القوات يتجاوز مجرد نشر وحدات عسكرية؛ إنه يتعلق بإعادة صياغة بيئة أمنية واجتماعية وسياسية كاملة. فغزة ليست ساحة سهلة، ولا تشبه أى تجربة حفظ سلام تقليدية. إنها منطقة شهدت حروبًا متعاقبة، وانقسامات سياسية داخلية، وضغوطًا إقليمية متشابكة، وعقودًا من الاحتلال والحصار، ما يجعل أى قوة تدخلها مطالَبة بفهم تاريخها وواقعها وتركيبتها الاجتماعية الأمنية. وهذا ما يجعل النقاش حول «المهام والمصاعب والعقبات» ليس مجرد قائمة نقاط، بل مسارًا تحليليًا معقدًا يوضح كيف يمكن لقوة كهذه أن تنجح أو تنزلق نحو الفشل. المهمة الأولى، وربما الأكثر حساسية، تتعلق بإدارة الأمن ومنع الفراغ الذى قد يُولّد موجة جديدة من العنف المطلوب من قوات حفظ الاستقرار ليس القتال بل فرض بيئة تمنع عودة المواجهات، وهذا يعنى التعامل مع بقايا الفصائل المسلحة، وضبط السلاح غير الشرعى، وتأمين الحدود، ومراقبة أى تحركات قد تُشعل الوضع من جديد لكن هذا الهدف يصطدم بالواقع على الأرض، إذ لا يمكن لأى قوة أن تمارس دورًا أمنيًا دون تنسيق سياسى مع الأطراف الفلسطينية، ولا يمكنها فرض الاستقرار دون ضمان ألا ينظر إليها السكان كقوة احتلال جديدة، خاصة فى مجتمع خبر وجود قوات أجنبية وجرّب أثمان التدخلات غير المدروسة. أما المهمة الثانية فهى دعم إعادة الإعمار وضمان عدم تحول مشاريع إعادة البناء إلى ساحة نزاع جديدة فالقوة المنشودة يجب أن تخلق بيئة آمنة تسمح للمنظمات الدولية بالحركة، وللشاحنات بالدخول، وللمستشفيات والمدارس بالعمل، وللناس أن يستعيدوا شيئًا من حياتهم الطبيعية لكنها ستجد نفسها داخل شبكة صعبة من المصالح الاقتصادية والسياسية، حيث تتقاطع آليات التمويل، والجهات المنفّذة، والاعتراضات المحلية، والضغوط الإقليمية. وغالبًا ما تتحول عملية إعادة الإعمار حين لا تُدار بحذر إلى سبب جديد للصراع بدل أن تكون مخرجًا منه. وتبرز مهمة ثالثة لا تقل تعقيدًا وهى دعم السلطة المدنية الفلسطينية التى ستتولى إدارة الحياة اليومية فبدون منظومة حكم فعّالة، لا قيمة لقوة حفظ استقرار مهما كانت مرتبة التنظيم. لكن هذه العملية تتطلب توافقًا فلسطينيًا داخليًا، وهو أمر لم يتحقق منذ سنوات طويلة وإذا دخلت القوة الدولية قبل وجود توافق سياسى، فإنها ستجد نفسها تحاول إدارة مجتمع منقسم السلطة ومتشابك الولاءات، وهو ما يضعها فى عين العاصفة بشكل مباشر. فى المقابل تتسع قائمة المصاعب. البيئة الأمنية فى غزة شديدة التعقيد، خصوصًا مع احتمال وجود خلايا مسلحة غير مركزية قد ترى فى القوة الدولية خصمًا جديدًا. وهناك مصاعب تتعلق بالاختلاف بين الدول المشاركة نفسها، لأن كل دولة سيكون لها حساباتها، وقد تتضارب أولوياتها مع أولويات الدول الأخرى كما أن إسرائيل، رغم أنها قد ترحّب بالقوة لضمان عدم عودة الفصائل المسلحة، قد تفرض قيودًا على انتشارها، ما يحد من قدرتها على الفعل، ويجعلها فى موقع غير مستقل، وهو ما يضعف صورتها أمام سكان غزة. وتتزايد العقبات إذا نظرنا للمستوى الشعبي. فالغزيون، الذين مرّوا بحصار طويل وتجارب قاسية، قد ينظرون بقلق لأى قوة خارجية خشية أن تتحول إلى شكل جديد من الهيمنة أو الوصاية. كسب ثقة الناس سيكون مهمة صعبة، لكنه شرط أساسى لنجاح أى مشروع استقرار علاوة على ذلك، فإن أى حادث فردى سواء خطأ عسكرى أو احتكاك مع المدنيين قد يُشعل غضبًا واسعًا ويقلب الصورة فى لحظة واحدة، خصوصًا فى مجتمع عالى الحساسية نتيجة تراكم الجراح. ومع كل هذه التحديات، تظهر مصر فى قلب المشهد باعتبارها الجسر الطبيعى وربما الوحيد القادر على الربط بين مختلف اللاعبين. فهى الدولة التى تملك حدودًا مباشرة، وتاريخًا طويلاً من التعامل مع الملف الغزّى، وخبرة أمنية وسياسية تجعل مشاركتها أو قيادتها للقوة عاملاً حاسمًا فى نجاحها ومع ذلك، فإن نجاح أى مبادرة لا يتوقف عند المشاركة المصرية وحدها، بل على قدرة الأطراف الدولية على صياغة مهمة واضحة، قابلة للتنفيذ، ومقبولة من جميع الفاعلين المحليين والدوليين. تبدو السيناريوهات المستقبلية عنصرًا جوهريًا لفهم مصير مشروع القوات. السيناريو الأول هو سيناريو النجاح النسبى، حيث تتمكن القوة من تثبيت استقرار أولى، وتبدأ عملية إعادة الإعمار، ويجرى تمكين سلطة فلسطينية مدنية بالتنسيق مع الدول العربية، ويتم وضع إطار زمنى واضح لعمل القوة، ما يمنع تحولها إلى وجود دائم. هذا السيناريو يتطلب توافقًا فلسطينيًا داخليًا ودعمًا عربيًا مباشرًا، وإرادة دولية صلبة تمنع تدخل المصالح الإقليمية فى مسار العملية. السيناريو الثانى هو سيناريو الجمود، حيث تنتشر القوة لكن دون قدرة فعلية، وتتحول مهمتها إلى رقابة شكلية على واقع هش. لا يحدث انفجار كبير، لكن لا يتحقق استقرار حقيقى، وتتعثر إعادة الإعمار، وتبقى غزة معلَّقة بين الحرب والسلام هذا السيناريو قد يكون الأكثر ترجيحًا إذا بقى الانقسام الفلسطينى على حاله أو إذا قيّدت إسرائيل حركة القوة بشكل يمنعها من أداء دورها الكامل. أما السيناريو الثالث فهو سيناريو الفشل أو الانهيار، وهو الأخطر. كأن تتعرض القوة لهجمات مسلحة من مجموعات ترى فى وجودها تهديدًا مباشرًا، أو ينفجر صراع سياسى داخلى يجعل القوة جزءًا من المشكلة بدل أن تكون جزءًا من الحل. فى هذا السيناريو قد تضطر بعض الدول إلى سحب قواتها، وتفقد المبادرة الدولية هيبتها، وقد تسقط غزة مرة أخرى فى فراغ خطير يعيدها إلى نقطة ما قبل الوجود الدولي. وهكذا تبدو «قوات حفظ الاستقرار» مشروعًا متقدمًا لكنه هش، واعدًا لكنه محفوف بالعقبات، ويمكن أن يكون مدخلًا لمرحلة جديدة أو بابًا لمخاطر أكبر. النجاح لا يعتمد على القوة نفسها، بل على البيئة السياسية التى ستعمل داخلها، وعلى قدرة الأطراف الفلسطينية على بلورة توافق وطنى حقيقى، وعلى استعداد القوى الدولية والعربية للتعامل مع غزة ليس كملف أمنى فقط، بل كقضية سياسية وإنسانية تحتاج إلى حلول عادلة ومستدامة. وفى النهاية، ستُكتب قصة هذه القوات فى غزة ليس بالمدرعات ولا بالمقارّ المحصنة، بل بثقة الناس أولًا وبالتوازن الدقيق بين الأمن والسياسة ثانيًا.