فى المشهد العربى والفلسطيني، تبدو قمة شرم الشيخ للسلام خطوة مفصلية تمزج بين الطموح والدعوات الواقعية، بين الأوراق الدبلوماسية والخطوات والمصاعب التنفيذية، وبين دور القاهرة كمنسق إقليمى، وصورة أمريكية تبحث عن بلورة مشروع سلام بعد صراع طويل. هذه القمة لم تكن حدثًا احتجاجيا عالميًا على المحتل الإسرائيلى فحسب، بل محطة لإعادة ضبط التوازنات، وفحص جدوى الخطط الأمريكية، وطرح سؤال حقيقي: هل يمكن تحويل وقف النار إلى سلام دائم مؤسسى؟ وفى هذا السياق، يتوسط الدور المصرى كفاعل محوري، ما زال يحمل أعباء الشعب الفلسطينى على عاتقيه، لكن خطوات القاهرة هذه المرة؛ نجحت فى توصيل صوت الشعب الفلسطيني؛ والوقوف أمام أى محاولات للتضحية بأرضه.. من أرض السلام يأتى سلام غزة.
دوافع القمة قمة شرم الشيخ؛ جاءت بعد اتفاق أولى لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، ومبادرة أمريكية مكونة من «خطة سلام» تضم عشرين بندًا؛ لتثبيت الهدنة وإطلاق مرحلة إعادة إعمار وإدارة مؤقتة لغزة. الرسالة البارزة لقمة السلام؛ أن العالم لا يريد العودة إلى المرحلة السابقة، وأن هناك تحركًا دوليًا لإبراز أن الحرب ليست النهاية؛ بل بوابة لتسوية حتمية لوقف إسرائيل عن مخططاتها. عقدت القمة بإشراف من الرئيس عبدالفتاح السيسى، ورغبة الرئيس الأمريكى للتصدر للمشهد لإضفاء صبغة رمزية على المشروع، عكسا أن القمة ليست مجرد منتدى بل مسعى لاستعادة زخم الوساطة الأمريكية فى الشرق الأوسط؛ من جهة بعد تراجع الدور الأمريكى بصورة كبيرة؛ منذ بداية الحرب فى 2023. وفى الأجندة المقررة جاء، تبادل الأسرى والمحتجزين، وانسحاب جزئى للقوات الإسرائيلية، وفتح معابر إنسانية، بالإضافة إلى تعهدات بإعادة الإعمار، كلها أمور توافقية، لكن ما بعد ذلك- إدارة غزة- يبقى النقطة الأصعب؛ القمة تمثل سقفًا مشتركًا مرحليًا، لكنها ليست ضمانًا لحلولٍ نهائية ما لم تدعم بخطوات تنفيذية حاسمة. الدور المصرى لا يمكن فهم مسارات قمة شرم الشيخ؛ دون التوقف طويلًا عند دور مصر ليس كطرف فقط، بل كمنسيق استراتيجى بين الفاعلين، وضمان لتمرير بنود تتماشى مع مصلحة الشعب الفلسطينى أولًا واستقرار الشرق الأوسط.
1. الوساطة بهدوء وتكتيك مصر أطلقت ما يعرف ب«المفاوضات غير المباشرة» بين إسرائيل وحماس طيلة الأزمة، متحالفة مع قطروتركياوالولاياتالمتحدة؛ فى التفاوض على البنود الأساسية (تبادل الأسرى، الوقف المؤقت، فتح المعابر)؛ فى تحليل بموقع Chatham House بعنوان "Egypt is crucial to Trump's Gaza plan – but fears a security vacuum after an Israeli withdrawal"، يُشير David Butter أن القاهرة أدارت التفاوض خلف الكواليس، مع حرص على أن تتحول الأطراف الفاعلة إلى دور حقيقى على الأرض وليس دورًا دبلوماسيًا فقط، لضمان انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع. مصر فى هذه المفاوضات؛ تقول إنها ترفض أن يلقى على عاتقها وحدها تأمين غزة، وتطالب بأن تكون هناك التزامات دولية تعينها فى هذا الدور؛ فهى اتخذت دور مهندس الاتفاق؛ لكن على المجتمع الدولى المساعدة والمساندة فى دور التنفيذ؛ لوضع إسرائيل فى مأزق ضرورة تحقيق أهداف الاتفاق.
2 - توازنات حقيقية موقف القاهرة؛ متوازن لكنها تدعم فى الأساس حقوق الشعب الفلسطيني، حيث كان رفض القاهرة القاطع لخروج سكان القطاع، أو محاولات التهجير الإجبارية تحت مظلة طوعية من قبل إسرائيل، خط واضح وثابت أن القاهرة لن توافق على هذا المخطط. ومن جهة أخرى؛ تؤكد مصر على الحفاظ على أمنها القومي؛ ورفض كافة الخطوات الإسرائيلية الاستفزازية لزعزعة استقرارها؛ أو حتى التفاف حولها «بروباجندا» الأعداء الإعلامية؛ كما أن مصر تقدم ضمانًا بأن أى إدارة مستقبلية لغزة لا تتحول إلى كيان مستقل أو منافس، بل أن تكون مندمجة ضمن مشروع الدولة الفلسطينية؛ أو تحت إشراف مؤسسات دولية وعربية. 3. الخطة المصرية كمقترح بديل أو مكمل منذ ما قبل القمة، طرحت مبادرات مصرية لإعادة الإعمار تكون القاهرة فيها "معماريًا" للجهود، بما يرضى الطرف الفلسطينى والدول المانحة، ويؤكد أن القاهرة ليست وسيطًا فحسب بل شريكًا تنفيذيًّا؛ مثل هذا الدور يقوى موقعها الجغرافى والإقليمى فى الملف الفلسطيني؛ فى تحليل لموقع Atlantic Council بعنوان «Trump should embrace the Egyptian Gaza plan»، يشير كاتب المقال إلى أن الخطة المصرية؛ تمثل قاعدة تمكن أن تراعى مصالح الأطراف؛ وتحافظ على استقرار المبادرة الأمريكية إذا تم تبنيها أو دمجها. ثالثًا الموقف الأمريكى- الإسرائيلى لكى نفهم السياق الكامل، لا بد أن نعرض المواقف المتقابلة للأطراف الأخرى، وكيف تتفاعل مع الدور المصرى. الموقف الأمريكي: الشريك الضاغط والعنوان الكبير الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أعلن عن «خطة سلام» تتضمن 20 بندًا، وحرص على أن يصبح هو القائد الرمزى للتنفيذ، وهو الذى يجلس بجانب الرئيس السيسى فى مراسم توقيع المرحلة الأولى فى شرم الشيخ؛ (من أبرز ما تضمنته الخطة الأمريكية، حسب تحليل معهد Brookings: إحياء فكرة الدولتين كجزء من السياسة الأمريكية، ربط غزة والضفة تحت سلطة فلسطينية موحدة، التزام أمريكى بعدم ضم غزة، وخلق «منطقة اقتصادية خاصة» لتشجيع التنمية. لكن الانتقادات لا تنقطع: الخطة تتضمن طموحات كبيرة؛ لكن تفتقر إلى تفصيلات عن من سيقدم القوة الأمنية أو من سيدير المرحلة الانتقالية؛ وكيف يضبط تنفيذ البنود؛ كما يشير بعض المحللين فى تقرير Brookings إلى أن ترامب يحاول أن يعيد لنفسه دور الرائد فى الشرق الأوسط، ومن خلال ذلك استعادة زخم دبلوماسي.
الموقف الإسرائيلي: التوقع والمقاطعة المضمرة إسرائيل، وهى الطرف الأكثر تأثيرًا عسكريًا وأمنيًا، لم تشارك تلقائيًا فى كل بند من الخطة، غياب رئيس الوزراء نتنياهو عن القمة يعد رسالة سياسية: الربط بين الانسحاب التام وتنازلات شاملة قد يكون صعبًا داخليًّا للحكومة الإسرائيلية؛ لكن رغم ذلك، بحسب تحليل Brookings، فإن إسرائيل تواجه ثلاثة تحديات كبيرة بعد الاتفاق: 1. كيف تجعل الاتفاق يعمل ضد منطق الانتصار وتقبل أن الخروج من الحرب ليس استسلامًا. 2. كيف تشارك بشكل عملى فى بناء سلطة انتقالية فى غزة مع ضمان أمنها. 3. كيف تستعيد مصداقيتها الدولية. الموقف الإقليمى والدولى الاتحاد الأوروبى حاول أن يؤمن لنفسه دورًا إشرافيًا، واقترح الانضمام إلى «Board of Peace» لضمان أن يعود دوره فى الملف الفلسطيني. تركياوقطر شاركتا كمسهمين فى الوساطة ورفضا ضلوع إشراك إسرائيل فى الاتفاق خاصة تركيا على سبيل المثال عارضت حضور نتنياهو فى القمة بعض الدول الخليجية أعلنت استعدادها للمساهمة فى إعادة الإعمار، وهى خطوة قوية لتحقيق بنود الاتفاق وتثبيت الوضع على أرض الواقع. ومن جهة أخرى، جاءت تحليلات فى مواقع مثل Atlantic Council؛ تشجع أن واشنطن تدعم الخطة المصرية لتقوية الاستقرار الإقليمي، معتبرة أن المشروع المصرى يمكن أن يكون نقطة التقاء لمصالح اللاعبين. بهذا التداخل، يصبح الدور المصرى فى القمة ليس كطرف فى الصراع، بل كحلقة وصل بين الأجندات الأمريكية والإسرائيلية والإقليمية، مع محاولة لتأطير السلام داخل إطار عربى يعيق استغلال غزة كمنصة صراع خارجى. 4 - من يحكم غزة؟ لفهم مضمون القمة وتنفيذها، لا بد من الإضاءة على السلطة صاحبة الواقع الفعلى فى غزة الآن، وما هى شبكة القوى التى تدار منها الأمور اليومية. حماس: السلطة العسكرية والمدنية الفعلية منذ سيطرتها على القطاع فى 2007، باتت حركة حماس تمارس حكمًا ميدانيًا فى غزة-أجهزتها الأمنية، إداراتها المدنية، شبكات الخدمات العامة؛ بالرغم من الضربات التى تعرضت لها خلال سنوات الحرب، إلا أن بقايا البنية المؤسسية للحركة لا تزال فاعلة؛ حتى فى التحليلات التى تقيم الخطة الأمريكية، يعتقد أن حماس لن تتخلى فجأة عن كل مؤسساتها فجأة. السلطة الفلسطينية: دور مقيد ومطلوب استعادة النفوذ السلطة الفلسطينية ليست موجودة كقوة تنفيذية فى غزة، لكنها قد تستعاد عبر خطة انتقالية أو لجنة تكنوقراطية أو إشراف دولى وفق الخطة الأمريكية؛ فى العديد من التصريحات عقب القمة، جاء ذكر أن إدارة غزة ستمنح إلى 15 تكنوقراطيًا فلسطينيًا بإشراف دولى وإقليمي، وأن يكون دور السلطة الفلسطينية مركزيًا فى المدى المتوسط وذلك وفق تحليل مركز. Foundation for Defense of Democracies الفاعلون المدنيون والمنظمات الدولية فى الكثير من المناطق التى دمرت فيها البنية التحتية، تدار الخدمات جزئيا من قبل المنظمات الدولية (الأممالمتحدة، الأممالمتحدة لغوث اللاجئين، المنظمات الإغاثية)؛ هؤلاء الفاعلون هم من يضمنون «العيش المؤقت»، لكن ليس لديهم نفوذ أمنى أو سلطة تنفيذية على الأرض. الصراع بين المؤسسات والولاءات داخل غزة، هناك صراع على النفوذ بين حماس وإدارات محلية أو شخصيات مستقلة، قد تتهيأ لتعاون مع السلطة الفلسطينية أو تتماشى مع خارطة جديدة؛ هذا الصراع الداخلى سيحدد إلى أى مدى يمكن تسليم مؤسسات كاملة فى المرحلة الانتقالية، وما إذا كان سيكون هناك مقاومة أو رفض. المرحلة الثانية.. ما بعد الحرب تتجه الأنظار الآن إلى المراحل التالية من الخطة وبخاصة البنود المتعلقة بمن سيحكم القطاع المدمر؛ الخطة الأمريكية وضعت زمام الحكم فى أيدى لجنة مؤقتة مكونة من التكنوقراط؛ يشرف عليها ما يسمى «مجلس السلام» الدولي؛ على أن تستعيد السلطة الفلسطينية السيطرة على القطاع لاحقا. رغم وصف ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي؛ هذا الاتفاق بأنه «فجر تاريخى لشرق أوسط جديد» يحمل معه «سلامًا أبديا للجميع»، إلا أن يبقى مستقبل حكم قطاع غزة معلقا وغير محسوم. يخضع قطاع غزة فى البداية لحكم لجنة انتقالية مؤقتة؛ مشكلة من تكنوقراط فلسطينيين «غير سياسيين» تخضع لإشراف ما يسمى «مجلس السلام» الدولي، الذى يترأسه ترامب نفسه ويضم رئيس وزراء بريطانيا السابق تونى بلير، أحد أشهر الوسطاء فى قضايا الشرق الأوسط. ومن المفترض نظريا؛ أن يتم نقل السلطة لاحقا إلى السلطة الفلسطينية؛ بعد تنفيذها لإصلاحات رئيسية؛ وقد شارك الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى قمة دولية بشرم الشيخ المصرية الإثنين؛ تهدف إلى استكمال اتفاق يضمن نهاية الحرب على غزة؛ لكن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عارض بالفعل دور السلطة الفلسطينية فى الخطة؛ ويبدو من غير المرجح أن يقبل به. وتشترط خطة ترامب أيضا ألا يكون لحماس أى سلطة حكم فى غزة، بينما أكد قادة الحركة أنهم يتوقعون دورا مستقبليا فى إطار «حركة فلسطينية موحدة»؛وقبل كل ذلك، يبرز التحدى الهائل لإعادة إعمار غزة الذى دمرته سنتان من الحرب. الخطة الأمريكية للسلام: البنود، التحديات يعد الطابع الأمريكى للخطة التى تم توقيعها فى شرم الشيخ محوريًا لفهم ما سيطبق وما لن يطبق. وفى تحليل Brookings، يلاحظ أن المشروع الأمريكى يعيد إحياء فكرة الدولتين التى قد تحظى بدعم ثنائى فى واشنطن، لكنه يقر بأن العديد من البنود الهامة- مثل القوة الدولية، الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية، والتفاصيل الأمنية- لا تزال ضبابية كما تشير تقارير من Atlantic Council إلى أن الخطة المصرية يمكن أن تضيف قيمة للتوازن، وإذا دعمتها الولاياتالمتحدة فقد تخفف الاحتكاكات وتعطى محتوى أكبر للقوة العربية فى المشروع. وأخيرًا فان قمة شرم الشيخ تمثل مفترقًا بين واقع الحرب وآفاق التسوية، بين الرمزية والمضمون، وبين الضغوط الدولية والرهانات المحلية. إذا نجحت القمة فى تحويل الورق إلى تنفيذ ملموس، فإنها قد تسهم فى استقرار غزة، وتقوية دور السلطة الفلسطينية، وتخفيف التوتر فى الشرق الأوسط. وفى نهاية المشهد، تظل القمة اختبارًا حقيقيًا لمزاج السلام فى الشرق الأوسط، وليست مجرد توقيعٍ على بيانات. مصر قد نجحت فى أن تكون المحور الذى يعبر عن الإرادة العربية، لكن النجاح المراد الآن يقاس بما إذا كانت تلك الإرادة قادرة على أن تترجم فى شوارع غزة وحدود القطاع، وليس فقط فى قاعات المؤتمرات.