اليوم، تقود مصر واحدة من أكثر المبادرات طموحًا فى المنطقة، محاولةً تحويل إعادة إعمار غزة من مجرد مشروع هندسى إلى رؤية تنموية شاملة هذا التحرك ليس مجرد التزام أخلاقى أو سياسى، بل هو جزء من استراتيجية مصرية أوسع تهدف إلى ترسيخ الاستقرار الإقليمى، وإعادة صياغة أدوار القوى الفاعلة فى الملف الفلسطينى. فى ظل هذا المشهد، تبدو مصر أكثر من مجرد وسيط تقليدى؛ إنها اليوم القوة التى تحاول رسم خريطة طريق جديدة، تضمن ألا تكون غزة رهينة الدمار المتكرر، بل نموذجًا للاستقرار والتنمية فى المنطقة. مصر تلعب دورًا محوريًا فى القضية الفلسطينية، ليس فقط كوسيط سياسى، ولكن كضامن إقليمى للاستقرار وكفاعل رئيسى فى إعادة إعمار غزة عقب كل دورة من الصراع اليوم، ومع تزايد الضغوط الدولية لإعادة بناء القطاع بعد موجة الدمار الأخيرة، تطرح القاهرة رؤيتها على طاولة النقاش الدولى، ليس بوصفها خطة محدودة النطاق، بل كإطار شامل يربط إعادة الإعمار بالاستقرار السياسى والاقتصادى، ويمهد لتعاون دولى واسع يتجاوز الحلول التقليدية التى غالبًا ما تفشل فى تحقيق أثر مستدام. ما يميز الطرح المصرى أنه لم يأتِ كرد فعل طارئ على الكارثة الإنسانية فى غزة، بل هو امتداد لرؤية استراتيجية طويلة الأمد تستند إلى ثلاثة محاور رئيسية: ● إعادة الإعمار كمشروع تنموى مستدام: حيث ترفض القاهرة أن تتحول جهود إعادة البناء إلى مجرد استجابة مؤقتة تعيد إنتاج الهشاشة السابقة، وتسعى إلى وضع أسس اقتصادية واجتماعية تعزز صمود الفلسطينيين على المدى الطويل. ● ضمان إدارة فلسطينية مستقرة للقطاع: فإعادة الإعمار دون وجود إدارة فاعلة قادرة على توظيف هذه المساعدات والبنى التحتية الجديدة بفعالية لن يؤدى إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة. ● توسيع الشراكة الدولية والعربية: إذ تدرك مصر أن إعادة إعمار غزة ليست مسؤولية فردية، بل هى اختبار لمدى قدرة المجتمع الدولى على تقديم حلول عادلة للصراعات المزمنة. لم يكن هذا الطرح مجرد خطاب سياسى، بل جاء مدعومًا بتحركات عملية، حيث تم تقديم المبادرة المصرية فى وجود الاتحاد الأوروبى، الاتحاد الإفريقى، الأممالمتحدة، والمنظمات الدولية، ما يعكس حجم الجهد الدبلوماسى الذى تبذله القاهرة لتحويل رؤيتها من فكرة محلية إلى إطار عمل عالمى. مشروع عربى مشترك وتحالف إقليمى خلال الأشهر الماضية، عملت مصر على توسيع نطاق خطتها، لتنتقل من كونها مبادرة وطنية لإعادة الإعمار إلى مشروع عربى متكامل، يهدف إلى خلق تحالف إقليمى لإعادة إعمار غزة وضمان عدم ترك الملف بيد القوى الكبرى فقط، التى غالبًا ما توظف الدعم الدولى لأهداف سياسية بحتة. هذا التوجه لم يكن مفصولًا عن المواقف السياسية المصرية الواضحة، حيث أكدت القاهرة مرارًا أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم دون توافق فلسطينى داخلى، وهو ما دفعها إلى تكثيف جهود الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، فى محاولة لضمان أن يكون إعمار غزة جزءًا من حل سياسى شامل، وليس مجرد عملية إنسانية منفصلة عن السياق الأوسع للصراع. الحديث عن إعادة الإعمار يقودنا مباشرة إلى السؤال الأكثر تعقيدًا: من سيدير غزة بعد انتهاء الحرب؟. تصريحات وزير الخارجية المصرى بشأن مستقبل القطاع لم تأتِ من فراغ، بل تعكس إدراكًا عميقًا لحقيقة أن إعادة الإعمار دون وجود إدارة فلسطينية مسؤولة لن يكون سوى إعادة تدوير للأزمة نفسها. ● الموقف المصرى يقوم على عدة ركائز أساسية: ● رفض أى حلول جزئية أو مؤقتة تجعل غزة رهينة إدارة غير واضحة المعالم. ● ضرورة وجود سلطة فلسطينية قادرة على إدارة القطاع بفعالية، لضمان أن تكون المساعدات والاستثمارات جزءًا من مشروع مستدام. ● تأمين إشراف عربى ودولى يضمن تنفيذ خطة الإعمار وفق رؤية شفافة، بعيدًا عن أى استغلال سياسى للمساعدات. من خطة عربية إلى مشروع عالمى اليوم، تتجه مصر إلى تصعيد جهودها لجعل خطة إعادة الإعمار مبادرة عالمية بمشاركة دولية واسعة، مستندة إلى عدة عوامل: ● وجود دعم أوروبى متزايد للرؤية المصرية، حيث تدرك بروكسل أن تجاهل ملف غزة سيؤدى إلى مزيد من عدم الاستقرار فى المنطقة، ما قد ينعكس سلبًا على أوروبا نفسها. ● إدراك الأممالمتحدة لأهمية إشراك مصر فى أى ترتيبات مستقبلية للقطاع، نظرًا لدورها التاريخى كوسيط فاعل فى الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى. ● دعم عربى متزايد، خصوصًا من دول الخليج، التى ترى فى إعادة الإعمار فرصة لتعزيز حضورها الإقليمى من خلال دعم جهود التنمية والاستثمار فى البنية التحتية الفلسطينية. الاختبار الحقيقى: هل يلتزم المجتمع الدولى بمسؤولياته؟ رغم كل الجهود المصرية، يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس؟. التجربة تقول إن المجتمع الدولى كثيرًا ما يطلق وعودًا كبرى، لكنه غالبًا ما يتراجع عن تنفيذها بسبب التعقيدات السياسية والمصالح المتضاربة اليوم، تحمل القاهرة هذا الملف على عاتقها، ليس فقط كدولة جارة تتأثر مباشرة بما يحدث فى غزة، وصاحبة دور رئيسى بل كقوة إقليمية تسعى إلى إعادة تشكيل الدور العربى فى أزمات المنطقة. فى النهاية، نجاح الخطة المصرية يعتمد على عاملين أساسيين: ● مدى قدرة القاهرة على فرض رؤيتها كإطار دولى مقبول، يشارك فيه الجميع دون أن يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية. ● التزام المجتمع الدولى، خصوصًا القوى الكبرى، بدعم هذه الخطة ليس فقط ماليًا، بل أيضًا سياسيًا، من خلال تسهيل التوافق الفلسطينى الداخلى ووقف التدخلات الخارجية التى تعيق الاستقرار فى القطاع. ردود الفعل الدولية على المبادرة المصرية لقد لاقت المبادرة المصرية لإعادة الإعمار فى غزة استجابة دولية واسعة، فبينما كانت القاهرة قد طرحت خطتها كإطار عمل يهدف إلى ضمان الاستقرار السياسى والتنمية المستدامة فى القطاع، فقد أثارت هذه المبادرة تفاعلات متباينة من مختلف الأطراف الدولية على المستوى الأوروبى، أعرب الاتحاد الأوروبى عن دعمه القوى للخطة المصرية، حيث يرى أن هذه المبادرة قد تكون نقطة تحول نحو معالجة جذور الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، مع التركيز على تحقيق التنمية على الأرض أوروبا، التى تشعر بقلق متزايد من تبعات النزاع على استقرار المنطقة ككل، قدمت دعمًا سياسيًا واضحًا لهذا التوجه، خاصةً فيما يتعلق بتوسيع دائرة المشاركة الدولية فى إعادة إعمار غزة. إلا أن الأثر العام للمبادرة يظل إيجابيًا، حيث تم الإشارة إليها من قبل العديد من الأطراف الدولية كخطوة جادة نحو معالجة أحد أكثر الملفات تعقيدًا فى الشرق الأوسط، حيث يمكن أن تؤدى هذه المبادرة إلى تحويل غزة من مجرد نقطة ساخنة فى الصراع الإقليمى إلى نموذج لإعادة الإعمار والتنمية المستدامة، بمشاركة الجميع.