هل حقا فشلت ثورة يناير ودخلت خزانة التاريخ كما يُرَوِّج أصحاب النبرة الهدّامة الذين يريد أصحابُها، لأسباب تخصّ كلَّ فئة منهم، أن تسود وجهة نظرهم؟ ألم يروا على الأقل هذه العلامات الواضحة مثل إنهاء كابوس تمديد حكم مبارك والقضاء على كارثة التوريث لنجله والتخلص من حكم الإخوان وانفضاح حقيقتهم الخطرة لعموم الشعب بعد طول خديعة؟ هل كان أحد يتخيل أن ينتهى وضع الإخوان فى الواقع السياسى فى المدى المنظور والمحسوب؟ هل كان يمكن لأحد أن يتصور أن يتحقق كل هذا فى هذا الزمن القصير من عمر الثورة؟ ألا يرون الآن الانتهاء من المرحلة الأولى لمشروع تطوير قناة السويس العملاق؟ ألا يستشرفون المراحل التالية للمشروع؟ هل يدركون حقا معانى الحدث العظيم؟ هل قرأوا الدراسات الاقتصادية وتوقعات المستقبل؟ ألا يحسبون الآثار المعنوية الكبيرة على نفوس الشعب بعد ضحالة استمرت لعقود دون أى إنجاز حقيقى؟ ألم يتوقفوا أمام حقيقة أن هذا المشروع هو الأول من نوعه وحجمه يقوم بسواعد مصرية خالصة فى العصر الحديث، بدءا من الفكرة إلى التخطيط إلى التنفيذ، وفوق كل هذا التمويل الضخم الذى بلغ 68 مليار جنيه تسابق الشعب فى جمعها فى 8 أيام فقط، فى معجزة كان يصعب تصورها من قبل حتى فى خيال أكثر المتفائلين؟ هل كان يمكن لأى من هذه الإنجازات أن يتحقق دون الثورة؟ بل هل كان يمكن طرح مثل هذه الأحلام من خارج إطار الثورة؟ لقد تواضعت المطالب الشعبية حتى قبل يوم واحد من الثورة وتجسدت فى شعار «لا للتمديد، لا للتوريث». وكان هذا أكبر ما حققته حركة كفاية وأخواتها، بعد أن تبلورت على أياديهم خلاصة الحركة الوطنية طوال عهد مبارك. ولكن، حتى هذه المطالب المتواضعة كانت شِبه محصورة فى إطار النخب والحركة السياسية والنقابية، بعيدا عن الجماهير الغفيرة، كما لم يكن لها تصور عملى ينقلها إلى مجال الواقع، لسبب بسيط، وهو أنه ما كان يمكن تحقيق هذا الشعار إلا فى إطار ثورة، وكانت المعضلة الأساسية أن كثيرا من النشطاء، حتى آخر يوم فى عهد مبارك، كانوا يعلنون أن حركتهم فى ظل التغيير الديمقراطى الملتزم بالقانون، بما يعنى أنهم ضد العمل الثورى الذى ينتهك القانون السائد بجسارة ليضع قوانينه الجديدة! ولم يدرك هؤلاء أن التمسك بالقانون يعنى استمرار مبارك! كما لم يدركوا بعد هذا أن الإصرار على محاكمة مبارك وفق قوانينه كان يعنى مباشرة تبرئته من كل جرائم حكمه! يأتى تسفيه هذه الإنجازات من أكثر من مصدر، ومن المنطقى أن تكون جماعة الإخوان وحلفاؤها الأعلى صوتا، وقد وقعوا فى معارضتهم لمشروع القناة فى تناقضات تنمّ عن ضعف الذاكرة وعن تدهور مستوى كادرهم السياسى والدعائى، لانهم نسوا أن رئيسهم كان يُرَوِّج لهذا المشروع أثناء حكمهم باعتباره أمل مصر للخروج من الأزمات المتراكمة عبر عقود، بل كانوا يخططون متعمدين أن يكون المشروع فى قبضة دولة أخرى، وليس ملكا لمصر! وهناك فئة أخرى، قررت أن تكون مشاركتُها فى العمل العام برفض كل ما هو مطروح، والتشكيك فى النوايا، والتلميح، وأحيانا التصريح، بمؤامرات خفية تتسبب فى خراب! ومن هؤلاء مجموعة من المستظرفين يَدّعون لأنفسهم خفة الدم، وهم مستعدون دائما للتهكم من كل شيئ! وكثيرا ما تغمض المعانى التى يقصدونها لعدم قدرتهم على سبك النكتة، بسبب أنهم يتوهمون أن النية فى التنكيت وحدها كافية لإحداث الأثر الفكاهى! دعْ عنك أنهم ينسون أن جمهورهم ابن نكتة يفهم فى هذه المسألة بالذات أفضل منهم، كما أنه لا تحركه إلا النكتة المحبوكة! هذه الفئة بكل من فيها تتحدث فى مسائل معقدة بعقلية بسيطة، كأن يأخذون على واقع ما بعد الثورة أن نظام مبارك لا يزال موجودا بعد الإطاحة به! وهم يخلطون أشياء لا يجوز خلطها فى نظام مبارك الذى هو عدة ظواهر مركبة، بين رجاله الذين هم ليسوا أهم ما فى الموضوع، وبين المنظومة القانونية التى هى أهم بكثير من رجاله. هؤلاء المنتقدون يُبدِّدون الطاقة فى شبه التفرغ لإثارة الريبة عن أسباب استمرار رجال مبارك، وفى نفس الوقت، يُهملون الأوضاع القانونية التى أسسها مبارك والتى حرص على إبقائها من تجارب سابقة عليه، وفى كل الأحوال فإن هؤلاء لا يُقدِّمون بدائلَ عملية لكيف يمكن استبعاد المطلوب استبعادهم بأقل الخسائر على المصلحة العامة، وهم يظنون أن رجال مبارك كتلة مصمتة سلبية تتلقى القرارات الفوقية فتذعن، وتسمع عن رفض شعبى فتتراجع، وكأن رجال مبارك لا يتحركون فى وسط سياسى يتحصل كلُ مَن فيه على ما يوافق قدراته وقوته الموضوعية على الأرض. كما أن المنتقدين يقترفون ما هو أخطر بعدم إيلاء موضوع البرلمان الذى اقتربت انتخاباته ما يستحقه من اهتمام، بالتخطيط والسعى أن يكون لهم، أو لمن يثقون فيهم، تواجد وتأثير فاعل فى البرلمان، حتى تتمكن الثورة، التى يقولون إنهم خير من يُعبِّر عنها، من تحقيق بعض أهدافها المهمة بواسطة البرلمان، وإلا فلن تكون هناك إمكانية لتغيير الأوضاع القانونية التى ثار الشعب ضدها، ولفرض القوانين المأمولة التى تحقق الشعارات الأساسية للثورة التى على رأسها الحريات العامة والخاصة. ولقد صارت هناك إمكانية حقيقية للمضى قدما على درب الإصلاح السياسى، بعد هذه النجاح الكبير فى إنجاز المرحلة الأولى من المشروع العملاق بتطوير قناة السويس، وأصبحت الحاجة ملحة لأن تتجلى كل قوى المجتمع فى سبيل إحداث نهضة حقيقية تكون المشروعات العملاقة عنصرا أساسيا، ولكنها لا تغنى عن إتاحة أفضل مناخ يمارس فيه الأفراد والجماعات حرياتهم المسؤولة وفق المواثيق الدولية التى صدَّقت عليها مصر منذ عصر مبارك، ولكنه اكتفى بتجميل صورته فى الخارج، ولم يسع إلى أن ينعم الشعب بتجليات هذه المواثيق!