علاقة الفلاسفة أو العاملين فى حقل الفلسفة بالأدب، ليست علاقة جديدة أو طارئة، ولكنها علاقة قديمة جدًّا، وأصيلة كذلك منذ أن وضع أفلاطون جمهوريته الرومانسية العظيمة، وأفرد للشعراء مساحة واسعة وصاخبة، وراح الفلاسفة العرب ينسجون على منواله مساحات سردية وشعرية متشابكة مع عصورهم. وكان رهين المحابس «وليس المحبسين فقط» أبو العلاء المعرى، يخوض بقوة فى غمار أعتى المسائل الفلسفية والمعقدة فى الشعر مرة، وبالنثر مرة أخرى، وقرأنا نحن لزومياته على اعتبار أنها أطروحة فلسفية عميقة، وكذلك سفره البليغ والعميق «رسالة الغفران»، جاء مبحرًا وغائصًا فى العالم الأخروى بشكل متخيّل وبديع، ورغم ذلك، فهذه الرسالة لا تفقد عناصر الجمال التى توفّرت بصياغة الشاعر العبقرى. كذلك أبو حيان التوحيدى، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، كما أطلق عليه الباحثون المعاصرون، وكان يصوغ كل المسائل الفلسفية فى حكايات مصغرة أو مطوّلة، وأبرز تلك الكتابات «الإمتاع والمؤانسة» و«الصداقة والصديق»، وغيرهما من مؤلفات، قرأتها الأجيال العربية المتعاقبة على أنها مزيج من الأدب الممزوج بالفلسفة، أو العكس. والتراث العربى القديم ينطوى على نماذج شامخة وواضحة وبرزت على مدى العصور، وكانت كتاباتهم زادًا حقيقيًّا ووقودًا مفيدًا لإشعال القرون المتعاقبة، وبثّ الروح العالية فى كل شؤون الأدب والفكر. وإذا كان التراث العربى القديم، وكذلك التراث الغربى، فيهما ما فيهما من كتّاب وفلاسفة وأدباء، فالعصور الحديثة منذ جوتة الألمانى، حتى جان بول سارتر وألبير كامى، أفصحت عن عباقرة، استطاعوا أن يبثّوا كتاباتهم الأدبية والشعرية والمسرحية، ورؤاهم الفلسفية، وهناك من النقاد والمتابعين والباحثين، أخذوا على هؤلاء الفلاسفة، جفاف موادهم الإبداعية، وقالوا «إن الشعر والقصص والمسرحيات التى يكتبها الفلاسفة، ما هى إلا وسائل توضيح لرؤاهم وأفكارهم ونظرياتهم الفكرية والرياضية، وهى كتابات خالية من الروح، وتحتاج إلى عمليات ترقيق وانسيابية فنية أبسط من هذه الصياغات المحكمة بدقة علم الرياضيات». بالطبع هذه الفقرة السابقة، ليست مقتبسة من هنا أو من هناك، ولكنها هى حال كثير من النقاد والباحثين والمنشغلين بقضايا الأدب، وعندنا على مدى القرن الماضى ظهر شعراء ومبدعون وروائيون، تميل كتاباتهم إلى طرح القضايا الفكرية العميقة، والتى يجنح البعض إلى مقارنتها بالفلسفة، فعندنا عباس محمود العقاد، والذى كان يكتب قصائده من منطلقات فكرية وفلسفية بشكل محض، وفى العراق كان الشاعر جميل صدقى الزهاوى كذلك، كان يناقش شتى الأمور الوجودية والماهيات وبداية خلق الكون فى أشعاره، ورأى البعض أن ذلك التفلسف نوع من الإقحام، فلم تستطع النصوص أن تخلص للفلسفة من ناحية، ولم تستطع أن تكون نصوصًا أدبية خالصة. حتى جاء زكى نجيب محمود، المولود عام 1905، الذى كان يدرس فى كلية الآداب، وبدأ نشر نصوصه الفكرية والنقدية والأدبية فى صحيفة «السياسة» الأسبوعية، فى منتصف عشرينيات القرن الماضى، وله كتاب فى غاية الإبداع وهو «شروق وغروب»، نشره عام 1951، وتوغلت كتاباته الفلسفية فى مناقشة نصوص الآخرين الأدبية، حتى أن جاءت الخمسينيات وتفاقمت مناقشاته، حتى إنه أصدر كتابه «قشور ولباب»، مناقشًا فيه معظم ما شغل الحياة الأدبية والثقافية فى ذلك الوقت. وفى 27 يوليو 1957، كتب أنيس منصور فى باب «أخبار الأدب»، والذى كان يشرف عليه فى صحيفة «الأخبار»، مقالًا عنوانه «قشور ولباب فى الأدب والنقد»، وبدأه ب«فى الكتاب الذى صدر أخيرًا للدكتور زكى نجيب محمود، يناقش كل مفهومات الأدب والفن والذوق والعقل والنقد، وهل هو علم أو فن، والمناقشة جادة ومنطقية، والكتاب مجموعة من المقالات والدراسات، والكتاب قسمان: الأول للأدب ومفهوماته، والثانى عن الفلسفة وتطورها ومدلولها، وفى كلا القسمين نقد لكتب صدرت فى مصر». ويستطرد أنيس منصور قائلًا: «والدكتور زكى نجيب محمود يناقش كل شىء، ولا يفوته شىء، ولا يسلم بمعنى من المعانى مهما كان انتشار هذا المعنى، وجريانه على الأقلام، بل إن انتشار هذا المعنى يغريه بأن يناقشه، وأن يطلب إليه تجديد إقامته أو يضطره إلى مغادرة دولة الأدب، ويبدأ فى مناقشة معنى الأدب». ولا يتوقف زكى نجيب محمود عند هذا الكتاب، ولا تتوقف مناقشاته عند باب العرض والتوضيح والشرح، بل يذهب إلى أعمق القضايا المطروحة فى الكتب والتيارات والأفكار التى كانت تدور فى ذلك الوقت، لتصبح أفكاره إحدى الطلقات التى تحرز أهدافًا فاعلة ومؤثرة فى الحياة الأدبية والثقافية والفكرية، وقد أصدر عام 1963 كتابه «فلسفة وفن»، وفيه يجمع مقالاته ودراساته فى الفكر والفلسفة والنقد الأدبى، والتى كان كتبها بعد كتابه «قشور ولباب»، وأظهر زكى نجيب انحيازه بشكل كبير إلى الشعر القديم، تأثرًا أو تتبعًا لأفكار عباس العقاد، وحربه مع الشعراء الجدد، وفى ذلك الشأن تطالعنا دراسة عنوانها «ما هكذا الناس فى بلادى»، ويتضح من العنوان، أنه يقصد ديوان «الناس فى بلادى» للشاعر صلاح عبد الصبور، والعنوان فيه استهجان أو استنكار، اتضح فى المقدمة الساخرة التى بدأ بها دراسته، ثم راح يناقش الشاعر بشكل منطقى ورياضى، لا يعمل أى حساب لمساحة الخيال التى تكون إحدى ركائز الشعر الكبرى، وبعد أن ينثر شعر عبد الصبور، يقول: «هكذا الناس فى بلاد الشاعر طغمة من الأبالسة والشياطين، يفتكون ويرجفون ويحقدون ويقتلون ويسرقون ويشربون ويجشؤون، وهى صورة تهول الشاعر فيستدرك: (لكنهم بشر وطيبون حين يملكون قبضتى نقود).. فهم -رغم كل ما سلف عنهم من صفات- بشر!». وفى دراسة أخرى عن ديوان «كان لى قلب» للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، يسلك الطريق المنطقى والرياضى والعقلى والفلسفى الخاص بزكى نجيب، حتى يكاد يخرج الديوان من دائرة الشعر، وهذا بعض ما جنته المناقشات الفلسفية الحادة على دولة الشعر.