قرار العفو الشامل الذى أصدره الرئيس فى 8 أكتوبر يضم جرائم التخابر مع الدول الأجنبية.. وجرائم إتلاف الوثائق المتعلقة بأمن الدولة لستُ أعرف ما سبب أو سرّ انفتاح الشهية على الواسع لقرارات العفو، فما كدنا نستوعب ما صدر آنفا، حتى عوجلنا بالقرار الجمهورى 218 لسنة 2012 بمناسبة 6 أكتوبر وعيد الأضحى الذى لم يحل بعد، وتضمن القرار إعفاءات عن باقى عقوبة السجن المؤبد المحكوم بها فى أىٍّ من الجرائم المبينة بالقائمة المرفقة (وفيها جرائم بالغة الخطر)، إذا كانت العقوبة المقضى بها هى الوحيدة للمحكوم عليه، متى نفَّذ منها عشرين عاما، وعلى أن لا تقل سنه عن ستين عامًا فى 6 أكتوبر 2012، وأن يكون سلوكه فى أثناء التنفيذ داعيا إلى الثقة، وأن لا يكون فى العفو عنه خطر على الأمن العام، ودعنا من التعليق على هذاالقرار. إلاّ أننى لم أكد أفرغ من المقالات التى كتبتها عن شروط قرارات العفو، وما تنكبت فيه الجادة، متصورا أنى سأخلد إلى بعض الراحة من هذا الملف، حتى فاجأتنى أخبار مساء الإثنين وصحف صباح الثلاثاء 9 أكتوبر، بصدور قرار جمهورى بقانون بالعفو الشامل، عن كل وجميع أنواع الجرائم عدا القتل العمد التى ارتكبت فى ما بين 25 يناير 2011، وحتى 30 يونيو 2012، وذلك إذا كانت قد ارتكبت لمناصرة الثورة، وأن ذلك العفو الشامل يسرى على التحقيقات، مثلما يسرى على الأحكام، مع التزام كل من النائب العام والمدعى العام العسكرى، بالتقدم خلال ثلاثين يومًا -على الأكثر- بكشوف المستحقين لهذا العفو لإطلاق سبيلهم! وهذا الإطار الواسع جدا للجرائم التى يشملها قانون العفو الشامل، ولا أعرف سر المعاجلة إليه قبل تشكيل البرلمان الجديد، مع أن الرئيس صرّح بأنه لن يستخدم إلاّ فى أضيق الحدود سلطة التشريع التى منحها لنفسه بقراره بتاريخ 11 أغسطس 2012، هذا الإطار واسع جدا، يعنى أن يعم العفو مع قيام الشرط كل الجرائم التى احتوتها المدونة العقابية عدا القتل العمد.. ومن ثم فيضم جرائم التخابر مع الدول الأجنبية «م 77 (ب) عقوبات»، والتخابر والسعى لدى أحد من العاملين لمصلحتها ومعاونتها «م 77 (ج) عقوبات»، وجرائم إتلاف أو إخفاء أو اختلاس أو تزوير الأوراق والوثائق المتعلقة بأمن الدولة أو أى مصلحة قومية أخرى «م 77/2 (د) عقوبات»، وجرائم جمع الجند أو القيام بأعمال عدائية ضد دولة أجنبية كسوريا مثلا «م 77 (و) عقوبات»، وجرائم طلب وقبول الرشوة من دولة أجنبية «م 78 عقوبات»، والجرائم التى تؤدى إلى زعزعة الإخلاص للقوات المصرية المسلحة أو إضعاف روح الشعب أو قوة المقاومة عنده «م 78 (أ) عقوبات»، وجرائم إتلاف أو تعييب أو تعطيل أسلحة أو سفن أو طائرات أو مهمات أو منشآت أو وسائل مواصلات أو مرافق عامة أو ذخائر أو مؤن أو أدوية أو غير ذلك، مما أعد أو يستعمل للدفاع عن البلاد «م 78 (ه) عقوبات»، وجرائم تصدير بضائع أو منتجات أو غير ذلك من مصر إلى بلدٍ معادٍ (؟!) أو باستيراد شىء من ذلك «م 79 عقوبات»، وجريمة من يسلم لدولة أجنبية أو لأحد عمالها أو يفشى إليها أو إليه سرا من أسرار الدفاع عن البلاد «م 80 عقوبات»، وجريمة كل من أذاع بأى طريقة سرًا من هذه الأسرار أو نظم أو استعمل أى وسيلة من وسائل التراسل بقصد الحصول على سر من أسرار الدفاع عن البلاد أو تسليمه أو إذاعته «م 80 (أ) عقوبات»، وجريمة الموظف العام أو صاحب الصفة النيابية العامة أو المكلف بخدمة عامة إذا أفشى سرًا من أسرار الدفاع عن البلاد «م 80 (ب) عقوبات»، وجريمة من أذاع فى زمن الحرب أخبارًا أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة أو عمد إلى دعاية مثيرة «م 80 (ج) عقوبات»، وجرائم إذاعة شىء من ذلك فى غير زمن الحرب «م 80 (د) عقوبات»، ومجموعة الجرائم الضارة بأمن البلاد من جهة الداخل المبيَّنة بفقرات المادة 80 (ه) عقوبات، وجريمة من يسلم إلى دولة أجنبية أو أحد العاملين لمصلحتها أخبارًا أو معلومات أو أشياء أو مكاتبات أو وثائق أو خرائط أو رسومًا أو صورًا أو غير ذلك يكون خاصًا بالمصالح الحكومية والهيئات العامة أو المؤسسات ذات النفع العام، إذا كان قد صدر أمر بحظر نشره أو إذاعته «م 80 (و) عقوبات» وجرائم الإخلال العمدى بكل أو بعض الالتزامات التى يفرضها عقد توريد أو أشغال مع الحكومة لحاجات القوات المسلحة أو لوقاية المدنيين أو تموينهم، أو الغش فى تنفيذ هذه العقود «م 81 عقوبات»، وجريمة إعانة الجانى فى هذه الجرائم أو إخفاء ما استعمل أو كان معدًّا للاستعمال فيها، أو إتلاف أو اختلاس أو إخفاء ما من شأنه تسهيل كشف الجريمة ومعاقبة مرتكبيها «م 82 عقوبات»، وجريمة الاشتراك فى اتفاق جنائى الغرض منه ارتكاب الجرائم من 77 إلى 80 عقوبات «م 82 (أ) عقوبات»، وجريمة الاشتراك فى هذا الاتفاق الجنائى، سواء كان الغرض منه ارتكاب الجرائم المشار إليها فى المادة السابقة أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه «م 82 (ب) عقوبات»، كما يمتد هذا العفو إلى الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل الواردة بالباب الثانى من الكتاب الأول من قانون العقوبات [المواد 86، 86 مكررا، 86 مكرر (أ)، 86 مكرر (ب)، 86 مكرر (ج)، 86 مكرر (د)، 87، 88، 88 مكررا، 88 مكرر (أ)، 88 مكرر (ب)، 88 مكرر (ج)، 88 مكرر (د)، 88 مكرر (ه) من قانون العقوبات]، ويشمل فى ما يشمل من هذا الباب جناية تأليف عصابة لمهاجمة طائفة من السكان أو مقاومة السلطات العامة بالسلاح، أو تولى زعامة مثل هذه العصابات أو الانضمام إليها (م 89 عقوبات)، ويشمل هذا العفو جرائم التخريب والإتلاف العمدى للأملاك العامة والخاصة وللمرافق العامة والمصالح الحكومية والمؤسسات والجمعيات ذات النفع العام المؤثمة بالمادتين 89 مكررا، 90 عقوبات، وجرائم الاحتلال بالقوة أو محاولة الاحتلال بالقوة للمبانى العامة أو المخصصة للمصالح الحكومية أو المرافق العامة أو المؤسسات ذات النفع العام «م 90 مكررا عقوبات»، وجريمة تولى لغرض إجرامى قيادة فرقة أو قسم من الجيش أو الأسطول.. إلخ. بغير تكليف من الحكومة وبغير سبب مشروع «م 91 عقوبات»، وجرائم تعطيل أوامر الحكومة أو تعطيل تنفيذها «م 92 عقوبات»، وجريمة من يتقلد رئاسة عصابة حاملة للسلاح أو يتولى قيادة فيها بقصد اغتصاب أو نهب الأراضى أو الأموال المملوكة للحكومة أو لجماعة من الناس أو مقاومة القوة العسكرية المكلفة بمطاردة مرتكبى هذه الجنايات «م 93 عقوبات»، وباقى جرائم أمن الدولة المعاقب عليها بالمواد 94، 95، 96، 97، 98 (أ)، 98 (أ) مكررا، 98 (ب)، 98 (ب) مكررا، 98 (ج)، 98 (د)، 98 (ه)، 98 (و)، 99، 100، 101، 102، 102 مكررا من قانون العقوبات الواردة بالقسم الثانى من الباب الثانى من الكتاب الثانى من قانون العقوبات.. ويسرى هذا العفو الشامل الذى أحدِّثك عنه، على جنايات وجنح هتك العرض وإفساد الأخلاق بالباب الرابع من الكتاب الثانى من قانون العقوبات، وعلى جرائم الضرب المفضى إلى الموت والضرب المفضى إلى عاهة مستديمة، والحريق العمد، وهتك العرض وإفساد الأخلاق، والقبض على الناس وحبسهم بغير حق وسرقة الأطفال وخطف البنات، والسرقة والاغتصاب والتهديد والابتزاز، والتخريب والتعييب والإتلاف، وانتهاك حرمة ملك الغير، والترويع والتخويف والبلطجة، المؤثمة بمواد أبواب الكتاب الثالث من قانون العقوبات. «نافذة رئاسية» لهروب المجرمين لم يقل قرار العفو سوى أن تكون الجرائم «لمناصرة الثورة».. فوقفتُ حائرًا مدهوشًا حيث لم يبين معيار تلك المناصرة فما ضابط سريان العفو الشامل على أى جريمة من هذه الجرائم الواسعة البالغة الخطر على أمن البلاد والعباد ؟! لم يقل القرار بقانون سوى أن تكون هذه الجرائم «لمناصرة الثورة»، وقد وقفت حائرًا مدهوشًا، ولا أزال، عند هذا الضابط الهمايونى الفضفاض، أن تكون هذه الجرائم التى تشمل كل جرائم المدونة العقابية عدا القتل العمد، بما فيها التخابر وتجارة السلاح والمفرقعات وسرقة السلاح والذخائر والحرق والنسف والتدمير وإحداث العاهات المستديمة، والضرب المفضى إلى الموت والاغتصاب وهتك الأعراض، أن تكون قد ارتكبت لمناصرة الثورة. ولم يتفضل القرار بقانون العفو الشامل الذى لم أعرف سر هذه المعاجلة إليه قبل تشكيل البرلمان القادم، لم يتفضل ببيان معيار «مناصرة الثورة» حتى نستطيع أن نهتدى إلى ما يدخل وما لا يدخل فى مناصرة الثورة. التذرع بمناصرة الثورة، أو التساند إليها، تذرع بمجهول وتساند إلى مجهول، لا ضابط له ولا رابط.. فمناصرة الثورة على إطلاقها باب واسع فضفاض وخطير، سوف يسعى أصحاب المصالح إلى الولوج منه للعفو عن جرائم غاية فى الخطورة بزعم أنها قد ارتكبت لمناصرة الثورة.. فما أسهل الادعاءات والاعتسافات ما دام لا يوجد ضابط حاكم، وما أسهل أن ننسب جرائم فى منتهى البشاعة والجسامة والخطورة إلى مناصرة الثورة.. فرب قائل يقول إن ما وقع أحيانا من هتك عرض فى ميدان التحرير، كان لمناصرة الثورة، وإنه لم يكن عنه غناء لهذه المناصرة.. ورب قائل يقول إن مداهمة أقسام ومراكز الشرطة والاعتداء على العاملين فيها والذى قد يصل إلى حد الضرب المفضى إلى الموت أو العاهة المستديمة، كان لمناصرة الثورة، وإن سرقة السلاح والذخائر من الأقسام ومراكز الشرطة كان لمناصرة وتأمين الثورة، وإن مداهمة الليمانات والسجون وإطلاق وتهريب المساجين كان لمناصرة الثورة، وإن مهاجمة مقر وزارة الداخلية لإسقاطها عدة مرات كان لمناصرة الثورة، وإن محاصرة والشروع فى مهاجمة مقر وزارة الدفاع كان لمناصرة الثورة، وإن مهاجمة مبنى التليفزيون والإذاعة، بما صاحبه من قتلى كان لمناصرة الثورة، وإن التخابر مع دول أجنبية كان بغرض مناصرة الثورة، وإن إشعال الحرائق وحرق وتدمير المجمع العلمى كان لمناصرة الثورة، وإن جرائم حرق مبنى وملفات الضرائب العقارية، وإن جرائم السب والقذف والإهانة للمسؤولين ولعباد الله كانت لمناصرة الثورة، وإن ما وقع من جرائم حول ماسبيرو أو الفتنة الطائفية بإمبابة وأطفيح كان لمناصرة الثورة، وإن ترويع الآمنين وجرائم البلطجة التى جرت فى كل مكان إنما كانت لمناصرة الثورة، وهكذا بلا ضابط يكف المطالبين عن الإمعان فى أطماعهم بلا حدود، أو يوجه المقررين إلى معيار محدد مضبوط مأمون لتطبيق هذا العفو الشامل الضرير!! المناصرة تحتاج إلى تعريف وضابط والثورة ذاتها تحتاج إلى تعريف وضابط. فالثورة قد خالطت، بعد أيامها الأولى التى لا خلاف عليها، خالطتها أجندات وأغراض لم تكن من الثورة، وخالطتها فوضى وبلطجة لم تكن، ولا يمكن أن تكون، من الثورة، والقرار بقانون الذى فتح الباب على مصراعيه للعفو الشامل، جاوز أولا ما استقر سالفا فى قصر العفو على الجرائم السياسية، وأحيل القارئ إلى المرسوم بقانون 241/1952 وأحكام محكمة النقض التى حدثتك عنها فى هذا الشأن، ثم أهمل ثانيا -أى القرار بقانون- وضع وبيان معايير وضوابط تعريف وتحديد المناصرة مثلما أهمل بيان معايير وضوابط تعريف وتحديد الثورة، لإخراج أعمال الفوضى والبلطجة والعدوان الصرف التى لا تنتمى، ولا يمكن ومن غير المقبول أن تنتمى، إليها. لا يكفى هذا القرار بقانون أن يستثنى جرائم القتل العمد ليغسل يديه من الأرواح التى أزهقت بغير حق، فالضرب المفضى إلى الموت فى نتيجته -أيًّا كانت القصود- قتل للنفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق، والضرب المفضى إلى العاهات المستديمة، قد يكون فى وقع نتيجته على المجنى عليه بحرمانه من عضو قد يكون بالغ الأهمية معادلا لإزهاق الروح ويزيد عليه بأن المجنى عليه يحيا ليعانى كل يوم بل كل لحظة وجيعة العضو الهامّ الذى فقده أو فقد منفعته. الأدهى أن القرار بقانون العفو الشامل، ممتد إلى التحقيقات، ومده إلى التحقيقات يعنى المصادرة على المطلوب، إذ إن وقف التحقيق بذريعة العفو!! يصادر على سبل التعرف عما إذا كانت الجرائم لمناصرة الثورة أم لأهداف وأغراض ومآرب خاصة تتشح بالثورة بغير حق! ماذا سوف يصنع النائب العام والمدعى العام العسكرى فى موعد الثلاثين يومًا المضروب لهما لتحديد من يسرى عليهم هذا العفو الشامل الواسع المدى الفاقد المعيار والضابط؟! دلونا ما السبيل يرحمكم ويرحمنا الله!