نواصل حديثنا عما يقصده الرئيس أوباما عندما يتحدَّث عن القيادة من الخلف، إذ يبدو لنا أن الرئيس يريد أن يستغل النفوذ الأمريكى وقدرة بلاده على الإيذاء، لدفع حلفائه لتحمُّل مسؤولية العمل العسكرى نيابة عن الولاياتالمتحدة، مع احترام الأُطر والحدود والأهداف التى ترسمها الإدارة الأمريكية، ونقول أولًا إن هذا خط واضح فى كل القارات والمناطق والملفات، ولكنه أكثر وضوحًا فى الشرق الأوسط، فالرئيس الأمريكى ووراءه الرأى العام ملّوا المنطقة ومشكلاتها وصراعاتها، وقيل لى إن أستاذ علاقات دولية كبيرًا وثيق الصلة بدوائر الحزب الديمقراطى صرَّح لنظرائه الفرنسيين بأن الرئيسَين أوباما وبوتين يختلفان حول كل القضايا، ولكنهما يشتركان فى اعتبار المنطقة مصدر «قرف» لا نهائى، ويحلمان باليوم الذى يمكن فيه تهجير سكانها بالكامل إلى كوكب المريخ، ليواصلوا صراعاتهم بعيدًا عن المجتمع الدولى. ونقول ثانيًا إن خبيرًا أمريكيًّا كبيرًا وصف هذا الخط بأنه بحث عن شراكات دون أن تكون الولاياتالمتحدة شريكًا، أى شراكات تلزم الآخرين بأشياء ولا تلزم واشنطن بشىء، وهذا بالطبع حلم كل دولة، ولكنه مخالف لطبيعة الأشياء، وهذا السلوك ظاهره ذكى، فعلى سبيل المثال الاتفاق مع إيران سيقضى ولو مرحليًّا على التهديد النووى الإيرانى مقابل رفع تدريجى للعقوبات، صحيح أن رفع تلك العقوبات سيوفِّر لإيران موارد تسمح لها بتكثيف مجهودها لتعظيم تهديداتها العسكرية التقليدية واللا متماثلة (دعم ميليشيات شيعية)، مما سيدفع دول الخليج إلى السعى للحصول على تعهدات أمريكية وعقد صفقات أسلحة ضخمة مع المصانع الأمريكية، وستميل الولاياتالمتحدة إلى رفض الالتزام بشىء ملموس وإلى تلبية بعض المطالب المتعلقة بالتسليح، وستحاول إقناع دول الخليج بشراء شبكة صواريخ مضادة للصواريخ، خلاصة القول إن الولاياتالمتحدة ستستفيد من الانسحاب من المنطقة مرَّتين، مرة أولى، لأنها ستخفِّض من ميزانية وزارة الدفاع، ومرة ثانية لأنها ستدفع دول الخليج إلى شراء أسلحة أمريكية. ولكن هذا السلوك محفوف بالمخاطر الآنية والآجلة، فهو من ناحية يفتح شهية خصوم وأعداء الولاياتالمتحدة ودول الخليج، لأنه سيقوى موقف مَن يريد التصعيد السريع لتعظيم المكاسب ولفرض أمر واقع قبل أن تتم الترتيبات الجديدة، وقبل أن تنجح دول الخليج فى الاتفاق على قواعد التنسيق وتوزيع المسؤوليات، من ناحية أخرى يقوّى هذا السلوك من حجج مَن ينادى بضرورة الانتقال من تعاون وثيق مع واشنطن إلى شراكة مع الصين (وإن كان هذا الخيار غير واقعى حاليًّا)، وسيدفع بعض عواصم الخليج إلى التفكير الجدى فى الحصول على سلاح نووى، يتعامل الخبراء الأمريكيون مع هذا الخيار باستهتار، ويقولون إنه غير واقعى، لأن الدول العربية لا تستطيع أن تتغلَّب على الصعوبات المعرقلة لهذا السعى، ولكن كلامهم غير مقنع بنسبة مئة فى المئة فى تقديرى، وأيًّا كان الأمر سيحث السلوك الأمريكى الدول العربية إلى الاستثمار المكثّف فى البحث العلمى والتكنولوجى. ويفترض هذا السلوك أن الولاياتالمتحدة ستظل محتفظة بقدرتها على التأثير على قرارات الدول المعتمدة على السلاح الأمريكى من خلال التهديد بقطع المعونات العسكرية، وأحسب أن التجربة المصرية أثبتت عدم دقة هذا الافتراض، وسنعود إلى تلك القضية فى مقال لاحق، ويفترض أيضًا أن النظام الدولى سيظل أحادى القطبية لفترة طويلة، وهذا ممكن جدًّا، لكنه غير حتمى. وتزيد تصريحات الرئيس أوباما الطين بلة وتعمِّق من أزمة الثقة، لأنه على سبيل المثال قال فى حديث صحفى إن المخاطر التى تهدّد دول الخليج داخلية فى المقام الأول، وإن أنظمتها معرَّضة لهزّات كثيرة ما لم تسع جديًّا إلى إصلاح نفسها، فهذا الكلام مهين وغير لائق ومتجاهل تمامًا لحقيقة التهديدات، والمساعى الإيرانية. وللحديث بقية..