فى صورة تُظهر الرئيس الامريكى "باراك اوباما " يحتسى مشروبا مثلجا و ورائه خلفيه القتال و المعارك و القتلى و الدمار .. نشرت مجلة " فورن بوليسى foreign policy"الامريكية ، مقالا للبرفسور "ستيفن والت Stephen M. Walt " استاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ، والذى اختار عنوانا معبرا عن فحوا مايريد قوله :" لا تتسبب بفعل (المزيد) من الضرر" .. موجها الحديث للرئيس اوباما و ادارته ، و فيه يهاجم السياسة الخارجية الامريكية هجوما غير مسبوق معتبرا انه في كل مرة تتدخل فيها الولاياتالمتحدة في منطقه الشرق الأوسط، يجعل تدخلها الأمور أكثر سوءا. . و عليه فان الولاياتالمتحدة قد حان لها الوقت للاختفاء بعيدا ولا تنظر إلى الوراء. ويستهل ستيفن حديثه لباراك اوباما قائلا : في حال كنت لم تلاحظ ان الشرق الأوسط يسير من سيء إلى أسوأ في هذه الأيام .. ستجد الحرب الأهلية السورية الطاحنة، واسرائيل والفلسطينيون مستمرون منذ الشهر الماضي في إراقة دماء لا طائل أخرى (وأكثر الدم الذى يجري هو دم فلسطيني)، وتنظيم الدولة الاسلامية ( داعش) يواصل توسيع سيطرته في أجزاء من العراق، و اصبح الآلاف من أعضاء الطائفة الدينية (اليزيدية) في خطر .. قد دفع هذا إدارة أوباما للنظر في الغارات الجوية أو التدخل بشكل من أشكال المساعدات الإنسانية المحمولة جوا.. في الوقت الذى يهاجم فيه المسؤولين في بغداد مرة أخرى بعضهم البعض. والوضع فى ليبيا يتكشف ، ويكذب ما منا به الصقور الليبراليون أنفسهم عندما سقط القذافي. وفى افغانستان تم قتل جنرال امريكي ، وهناك انتخابات أخرى متنازع عليها و تهدد الديمقراطية هناك وربما تعطي الفرصة الجديدة لجماعة طالبان لتحقيق مكاسب على حساب كابول. ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في تركيا يدعو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي "بالطاغية" وهو امر ساخر نظرا للنزعات الاستبدادية الخاصة التى يتمتع بها اردوغان. وهناك خلاف دبلوماسي بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقطر، و هو خلاف لا يزال غير مستقر. وهناك الطبيعة التى تبدو أنها ايضا ضدنا: الفيروس " كورونا MERS " في شبه الجزيرة العربية ، و الذى قد يكون معديا وينتقل عبر الاتصال . . و يكمل "ستيفن" حديثه المتجهم للرئيس اوباما قائلا " أنا متأكد من أنك يمكن أن تجد بعض الأخبار الجيدة وسط كل هذا إذا حاولت، ولكن ستجد هذا صعب جدا" . وسلسلة مثل هذه الأحداث تجذب الكثير من الناقدين ، ففي صحيفة "واشنطن بوست"، ستجد "إليوت كوهين Eliot Cohen " و هو من المحافظين الجدد يرثي ما وصفه "بحطام" السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويلقى باللوم فى كل شيء على فشل باراك أوباما ، لعدم ادراكه ان "الحرب هي الحرب" وتردده في حشد الأمة على شن المزيد منها. وهنا ينتقل " ستيفن " موجها كلامه لاليوت كوهين ( ناهيك عن أن الحرب الأخيرة ساعدت الولاياتالمتحدة في غزو العراق في عام 2003 – و هى حرب سببت ضررا أكبر بكثير من أي شيء قام به أوباما) وعلى جانب اخر ، ومن منظور أكثر إقناعا من جانب السفير السابق "شاس فريمان Chas Freeman " الذي يستعرض عدة عقود من تدخل أميركا في المنطقة، و فيه يصل إلى استنتاج محبط وهو : " انه من الصعب التفكير في أي مشروع أميركي في الشرق الأوسط ، فالولاياتالمتحدة ليست الآن .. في أو بالقرب من نهاية اى طريق مسدود ". ربما.. وبعد كل هذا الاحباط المثبط للهمم ، وحينما تكون الأمور سيئة بهذا الشكل ، يجب ان تكون هناك حاجة إلى إعادة التفكير في نهج الولاياتالمتحدة بأكمله فى التعامل مع هذه المنطقة ، و هى حاجة من من الصعب الهرب منها . وإذا كان لنا أن نلقي جانبا كل هذا اللغو و التابوهات والمحرمات المألوفة ، لناخذ نظرة جديدة ، ما هو الذى يمكن ان نراه؟ منذ الحرب العالمية الثانية، يقول " ساش فريمان" ان الولاياتالمتحدة دخلت فى شراكات وتحالفات مع حلفاء إقليميين مختلفين. وربما كانت هذه التحالفات ضرورة استراتيجية خلال الحرب الباردة (على الرغم من أن هذا الامر يمكن مناقشته)، ولكن الحقيقة المحزنة هي أن الولاياتالمتحدة لم يعد لديها اليوم شركاء ( يعتد بهم ) ، ففى مصر التوقعات قاتمة، ونظام اردوغان و حزب العدالة والتنمية في تركيا يتجه نحو حكم الحزب الواحد، في حين كل طموحة هو "عدم وجود اى مشاكل" . والمملكة العربية السعودية هي ملكية ثيوقراطية يعامل نصف سكانها - أي نسائها - كمواطنين من الدرجة الثانية (في أحسن الأحوال). وإيران هو نوع مختلف من الدولة الدينية: لها بعض الملامح شبه الديمقراطيية، ولكن أيضا لها سجل سىء مع حقوق الإنسان ، و لها طموحات إقليمية مقلقة . والامر لا يتحسن اينما نظرت ، فالنظام الملكي الهاشمي في الأردن لطالما كان حليفا لعقود، ولكنها لا تزال تعتمد اعتمادا كبيرا على الدعم الخارجي وضعيفة جدا وهشة لتكون محور للولايات المتحدة فى المنطقة، وينطبق الشيء نفسه على لبنان. . وليبيا لا تملك حتى حكومة. اما اسرائيل فهى تواصل أحدث جولات سخطها ضد الفلسطينيين حتى بدون أي غرض استراتيجي دائم و تتجه الى اليمين الآن و يشمل هذا دعوة مفتوحة من قبل شخصيات سياسية بارزة لاتباع سياسات تتجنب الحوار وتبادل الأفكار لصالح السعي والقضاء المبرم على المعارضين .. و بالنسبة لمصطلح "العلاقة الخاصة" مع إسرائيل فهو أيضا "وقود " لمعاداة الولاياتالمتحدة ويجعل واشنطن تبدو منافقة وغير فعالة على حد سواء في نظر معظم العالم. ولكن الجماعات السياسية الفلسطينية ليست أكثر جاذبية: فالسلطة الفلسطينية فاسدة وغير فعالة وعناصر من حركة حماس ما زالت تعلن أسوأ انواع من معاداة السامية السامة.. و دول مثل قطر والبحرين لا توفر اماكن قيمة لنشر و اقامة القواعد الأمريكية، وكثير من هذه الحكومات تتعاون مع الولاياتالمتحدة من باب مصلحتهم الذاتية، ومن الصعب العثور على أي شخص في المنطقة يبدو رصيدا استراتيجيا أو أخلاقيا حقيقيا فى هذه الأيام . ومع كل هذه البيئة غير الواعدة، ما من شىء سيكون معقولا - أو واقعيا - فما الذى على الولاياتالمتحدة أن تفعله؟ الإجابة المألوفة هي أن نقول أنه عالم غير كامل وأنه ليس لدينا خيار سوى العمل مع ما لدينا. ونسد انوفنا، ونتعامل مع الأطراف الأقل كراهية لنا في المنطقة. وكما يقول "مايكل كورليوني Michael Corleone " (انها ليست مسالة شخصية. انها بدقة مجرد أعمال) . ولكن يفترض هذا الرأي ، أن الانخراط العميق مع هذه المنطقة المضطربة لا يزال امرا حرجا لمصالح الولاياتالمتحدة الوطنية، بل يفترض ايضا ان الولاياتالمتحدة تجني الفوائد الصافية من تدخلها المتكرر بالنيابة عن شركائها الاقل ولاءا . وبعبارة أخرى، فإنه يفترض أن هذه الشراكات ومشاركة الولاياتالمتحدة العميقة ، تجعل الأميركيين أكثر أمانا وأكثر ازدهارا هنا في الداخل. ولكن نظرا للحالة الراهنة في المنطقة وحالة معظم حلفائنا فأن افتراض مشكوك فيه على نحو متزايد. وفي الحقيقة، فإن معظم النزاعات والانقسامات الجارية حاليا والتي تؤرق المنطقة لا تشكل تهديدات مباشرة ومميتة إلى مصالح الولاياتالمتحدة الحيوية . ومن المسلم به ان الامر موجع لمشاهدة ما يحدث في سوريا أو غزة، أو للديمقراطية فى إسرائيل، ولكن هذه الأحداث تؤثر على حياة عدد قليل جدا من الأميركيين مباشرة. ما لم يكن، بالطبع، نتسم بالغباء بما يكفي لنرمي بأنفسنا مرة أخرى في منتصف الدوامة. وعلاوة على ذلك، فان انفجار الشرق الأوسط اليوم بسلسلة من الصراعات المتداخلة على طول خطوط الصدع المتعددة، مدفوعا في جزء كبير منه بفشل الحكومة الذى طال أمده ويتفاقم بواسطة التدخل الخارجي المضلل. فهناك الانقسام بين السنة والشيعة، بطبيعة الحال، وبين الإسلاميين (من العديد من المشارب المختلفة) وهناك الاستبدادية التقليدية (و هى أيضا من عدة أنواع مختلفة). أضف إلى ذلك مزيج من الصراعات على أسس طائفية (كما في سورياولبنانوالعراق، وغيرها)، والشكوك المتكررة بين العرب والفرس. و لا تنسى الصراع بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين، التي لا يزال تتردد أصداء في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي. وهنا يتعين على الأميركيين أن يتذكروا ان الولاياتالمتحدة يمكن ان يكون لديها مصالح دائمة في الشرق الأوسط، ولكن ليس بالضرورة ان يكون لديها أصدقاء دائمين . ومن حيث مصطلح "مصالحها الاستراتيجية" ، لطالما كان هذا هدف الولاياتالمتحدة الرئيسي منذ الحرب العالمية الثانية لمنع أي قوة واحدة من الهيمنة على الخليج الفارسي الغني بالنفط ، على الرغم من كل هذه الاضطرابات والانقسامات والخلافات في المنطقة، فان هذه الصراعات تجعل ايضا إمكانية أن قوة واحدة سوف تسيطر على المنطقة النائية اكثر صعوبة من أي وقت مضى. فلا أحد يفكر بجدية سواء كان هذا من جانب .... إيراناوالعراق اوالمملكة العربية السعودية، او الدولة الإسلامية ( داعش ISIS)، اوالأكراد، او روسيا، او تركيا، اوالصين أو أي جهه اخرى ستكون قادرة على تولي إدارة هذه المنطقة الشاسعة المضطربة، وتذليل كل هذه الخلافات والعداوات؟ بالطبع لا لن يكون هناك احد قادرا على هذا . وإذا كان هذا هو الحال، فان الهدف الاستراتيجي الأساسي لأميركا بالفعل متحققا سواء تدخلت واشنطن بالمنطقة أو لا. سوف يجادل البعض الاخر بأن لدينا مسؤولية أخلاقية في محاولة لوضع حد لمعاناة واضحة في أماكن مختلفة، وهناك ضرورة استراتيجية للقضاء على الإرهابيين ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وهذه هي أهداف جديرة بالثناء، ولكن إذا كان تاريخ السنوات العشرين الماضية يعلمنا شيئا، فهو أن التدخل الأمريكي القوي من هذا النوع فقط ، يجعل هذه المشاكل أسوأ. فالدولة الإسلامية( داعش) لم يكن سيكون لها اى وجود ، إذا لم يقودنا المحافظين الجدد بطريقة عمياء في العراق، وإيران لم يكن لها أقل سبب للتفكير في الحصول على أسلحة نووية لو لم تلقى الولاياتالمتحدة بثقلها في العالم في المنطقة، وتهدد بشكل مباشر بتغيير النظام هناك . لذا وربما ان أفضل مسار الان ، هو اتخاذ خطوة الى الوراء أكثر مما نفعل بالفعل. لا، لا أقصد الانعزالية: ما أعنيه على محمل الجد ، هو فكرة "فك الارتباط الاستراتيجي" ووضع المنطقة برمتها فى درجة اسفل بلائحة أولويات السياسة الخارجية. وبدلا من حمل هذه الدول باستمرار على فعل ما نعتقد أنه أفضل - ومعظمهم يتجاهلنا أو يوبخنا - ربما ينبغي علينا السماح لهم بتصنيف هذه المشاكل بذاتهم و لفترة من الزمن ، وإذا اراد أي منهم المساعدة الامريكية في نهاية المطاف ، فأنه يجب أن تأتي هذه المساعدة مع ثمنا باهظا. من بين أمور أخرى، أقترح ان توقف الولاياتالمتحدة جهودها العقيمة لانهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني. ولقد جادلت كثيرا حول هذا المسار في الماضي، ولكن من الواضح الآن لي أنه لا يوجد أي رئيس على استعداد لتحدي مؤيدي إسرائيل هنا في الولاياتالمتحدة ، وتقديم دعم الولاياتالمتحدة لإسرائيل مشروطا بإنهاء الاحتلال. وحتى يحدث ذلك، فان الجهود المبذولة للتوصل الى السلام ستبقي متصفة بعدم حسنة النية. وبدلا من الاستمرار في إهدار الهيبة والوقت الثمين على هذا المسعى العقيم، يتعين على الحكومة الامريكية فك الارتباط من هذه المهمة حتى تبدى استعدادها التام للقيام بأكثر من مجرد قدرتها على التملق والتبرير.. وإذا كان قادة إسرائيل يرغبون في المخاطرة بمستقبلهم من خلال إنشاء "إسرائيل الكبرى"، فليكن.. وسيكون من المؤسف إذا انتهت اسرائيل الى دولة فصل عنصري ومنبوذة دوليا، ولكن منع هذه المأساة ليست مصلحة حيوية للولايات المتحدة (إذا كانت حقا ، سياسة الولاياتالمتحدة منذ أوسلو قد تكون اصبحت مختلفة نوعا ما).