يهدد تصاعد المخاطر التى بات العديد من الأنظمة العربية ينخرط بشكل عنيف فى مواجهتها بتغييب الاهتمام اللازم بمفهوم «الأمن غير التقليدي» الذى يعنى بأمن الأفراد والمجتمعات والجماعات فى مواجهة تهديدات تشمل الجريمة المنظمة والتدهور البيئى وأزمات النقص فى الموارد والكوارث الطبيعية، والانتشار الوبائى، وما إلى ذلك من أنماط تهديدات لا ترتبط مباشرة بأنماط التهديد العسكرى أو الدبلوماسى التقليدية للدول. يمثل الأمن غير التقليدى بالتالى الرهان الحقيقى لحراك الشعوب العربية خلال السنوات الأخيرة. وليست كل تلك التهديدات التى تعرف حالياً بأنها تهديدات «جديدة» أو «غير تقليدية» للأمن، جديدة بالضرورة، إذ أن بعضها يعكس ظواهر صاحبت وجود البشر منذ القدم. ولكن «الجديد» أنها صارت تعرف وتدرك ك «تهديد» أمنى. يعكس التحول المفاهيمى بين «التقليدي» و»غير التقليدي» بالتالى تحولاً قيمياً وإدراكياً بقدر ما يعكس فى حالات بعينها تحولاً يعبر عن واقع مستحدث بشكل كامل. يتمثل التحول القيمى فى إعلاء مكانة الإنسان الفرد وقيمته فى السياسة الواقعية مقابل المكانة التقليدية المهيمنة التى احتلتها كل من الدولة والأدوات العسكرية فى تحقيق الغايات السياسية وضمان الأمن. وقد مثل هذا التحول القيمى استجابة لسلسلة تحولات كبرى شهدها الفضاء السياسى تدريجياً عبر مدى زمنى يمتد من منتصف القرن العشرين ولا يزال جارياً حتى اللحظة الراهنة. وبالرغم من شيوع الاهتمام بهذا التوسع نحو مفهوم الأمن غير التقليدى عبر العالم، فإن ترجمته إلى سياسات عملية وبروز تجلياته يتياين من منطقة إلى أخرى، ومن قضية أمنية إلى أخرى. ومع الإقرار بداية بضرورة توافر الأسس الثقافية التى تضمن إعلاء قيمة الإنسان باعتباره الغاية الرئيسية التى يستهدفها الأمن غير التقليدين فإن هذا التفاوت عادة ما يرتبط بعاملين رئيسيين: 1- عامل فني-مؤسسي: يتعلق بتوافر، أو إمكانية توافر، المؤسسات والكوارد الفنية الضرورية للقيام بالعمليات والإجراءات الكفيلة بإدراك التهديد وتحديد طبيعته ومدى جسامته، وسبل مواجهته، والقادرة كذلك، على تنفيذ سياسات تلك المواجهة والإجراءات التى تتضمنها. وهذا العامل محدد رئيسى لإمكانية نشوء تعاون إقليمى أو عالمى فى هذا الصدد، بما يعزز احتمال أن يكون هذا التعاون مدخلاً للتكامل بين أطرافه وأساساً لحالة من السلم بينها، ويمكن أن نلحظ ذلك فى خبرة السلام التى صبغت الفضاء الأورو-أطلسى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتى نشأت فى البدء بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وأخذت تتوسع تدريجياً. فى المقابل، قد يحيل غياب الموارد الفنية والمؤسسية التهديد غير التقليدى إلى موضوع للصراع بين الأطراف المختلفة. حيث إن عجز هذه الأطراف عن مواجهة التهديد غير التقيلدى من خلال تعاون جماعى بسبب الافتقار للمعرفة أو البنية المؤسسية، قد يدفع كل منها إلى محاولة حماية نفسه فقط، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، وبشكل مؤقت وغير جذرى، ما يعزز من احتمال نشوء حالة صراع بينها، ويخلق تهديداً تقليدياً إضافياً. ويمكن أن نلحظ ذلك فى حالات الصراع التى يعرفها كثير من الدول أو الأقاليم النامية والأكثر تخلفاً فى أبنيتها المعرفية والمؤسسية. حيث غالباً ما يكون الصراع فى مواجهة تهديد غير تقليدى، كندرة المياه أو الغذاء أو حتى التوترات المجتمعية، سبباً للحروب والصراعات العنيفة، بدلاً من التعاون الذى لا تتوفر ركيزته المؤسسية أو المعرفية. 2- عامل سياسي-نخبوي: يتعلق بمدى توافر الإرادة السياسية لتحويل ما يمكن أن ينتجه العامل الأول من معرفة وتوصيات إلى سياسات فعلية، تخصص لها موارد تضمن تنفيذها. فمجرد توافر العامل الفني-المؤسسى لا يضمن مواجهة أى تهديد أمنى غير تقليدى تلقائياً، إذا لم تتوافر تلك الإرادة السياسية. وينطبق لزوم هذا العامل، لترجمة مواجهة أى تهديد غير تقليدى إلى سياسات عملية، على المستوى الداخلى للدولة، وكذلك على مستوى أى تعاون إقليمى أو عالمى. وغالباً ما يرتبط توافر تلك الإرادة السياسية لدى متخذ القرار بأنظمة حكم لا تميز بين مواطنيها، وتضمن حقوقاً وفرصاً متساوية لكل منهم أياً كان انتماؤه السياسى أو الاجتماعى أو الإثنى. فى هذه الحال تكون حماية هذه الحقوق وهذا المواطن ومستوى معيشته أولوية رئيسية من أولويات الدولة ونظام الحكم فيها. يزداد احتمال وجود هذا النمط من الحكم فى ظل الأنظمة الديموقراطية، ويتراجع فى ظل الأنظمة الاستبدادية. ومع احتمال وجود استثناءات على تلك القاعدة بشقيها، فإن الأنظمة الديموقراطية التى تضمن حقوقاً متساوية أصيلة لجميع مواطنيها ولا تعتمد فقد على الغلبة فى صناديق الاقتراع، هى التى تضمن للبشر تمثيلاً فعلياً فى تحديد ما يهددهم، ودوراً حقيقياً فى تغيير النظام حال عجز عن تحقيق أمنهم غير التقليدى أو تغافل عنه. عانى العالم العربى، تاريخياً، نقصاً كبيراً فى درجة توافر الشرطين السابقين للاهتمام بقضايا الأمن غير التقليدى، وتفعيل مواجهتها، سواء داخلياً أو على المستوى الإقليمى. ولن يمكن للحراك الثورى العربى المأزوم والذى مثل هبَّة ضد الظلم والفساد المستشرى والاستبداد، ما لم يكن الإنسان العربى وتحريره من أى تهديدات لوجوده وكرامته ومستوى معيشته هو رهانها الأول، والتحدى الرئيسى لها فى مرحلة تاريخية تتعاظم فيها التهديدات غير التقليدية التى تتهدد الشعوب العربية. وينبغى أن ينطلق أى جهد فى هذا السياق من تعديل مفهوم الأمن القومى، بحيث لا يكون أمن نظام الحكم فى الدولة، بل أمن مواطنيها كافة. ولعل فى تأسيس أنظمة ديموقراطية حقة، السبيل لحل التناقض الذى برز بين أنظمة الحكم والمواطنين، وأعجز الدولة عن تحقيق هذا التكامل بين شقى الأمن، التقليدى وغير التقليدى، ما ساهم بدرجة كبيرة فى الانفجار الثورى.