«يا رايحين للنبى الغالى.. نفسى أزورك يا نبى.. رايحة فين يا حاجة»، بهذه الكلمات وأمثالها من الأغانى والأناشيد الدينية يحتفل بها قاصدين بيت الله الحرام بزيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فرحا وسعادة بتأدية فريضة الحج والتى كانوا بشتاقون إليها، وتحمل بين طياتها مشاعر الشوق والفرح بزيارة بيت الله الحرام. الاحتفال بالحج عرفه الشعب المصرى قبل ظهور الإذاعة والتليفزيون فقد كان جزءًا أصيلًا من التراث الشعبى المصرى، فكانوا يحتفلون بالأغانى والمواويل والأناشيد التى عبّرت عن الفرح بزيارة بيت الله وأيضًا بعودة الحجاج، ولاتزال بعض مظاهر هذا الاحتفال حاضرة حتى اليوم فى القرى والأحياء الشعبية، من خلال الزغاريد، و«زفة الحاج»، وتزيين البيوت، واستقبال العائدين من الحج بالأناشيد والدعاء. وفى موسم تتسامى فيه الأرواح، وتُحلق القلوب صوب البيت الحرام، وبمناسبة عظمة الوقوف بعرفات، ترصد «المصرى اليوم»، البدايات الأولى لأغانى الحج والتواشيح التى رافقت أجيالًا من السامعين فى أيام مباركة يرددها الحجاج الذين تغمرهم السعادة بتأدية فريضة الله وزيارة رسوله الكريم. كانت الانطلاقة الحقيقية لأغانى الحج فى الإذاعة المصرية على يد الفنان محمد الكحلاوى فى ثلاثينيات القرن العشرين، من خلال أغنية «اشتياق الحجيج»، والتى كتبها ولحنها وأداها بنفسه، وتُعد هذه الأغنية أول عمل غنائى من نوعه يُذاع رسميًا فى هذا السياق، حيث بُثت لأول مرة فى الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الأحد، الموافق 26 إبريل 1936. المطربة الكبيرة نجاة على من أبرز الفنانات اللاتى تغنين بموسم الحج والحجاج، حيث قدمت أعمالًا خالدة تناولت مشاعر الذهاب والعودة من الأراضى المقدسة، ومن بين أبرز ما غنت: أغنية تتناول رحلة الحجاج ذهابًا وإيابًا، من كلمات بديع خيرى وألحان زكريا أحمد، بالإضافة إلى أغنية «يا رايح جدة على زمزم» من ألحان محمد القصبجى، إلى جانب عدد من المواويل المرتبطة بالحج، مثل: «سيرى يا زمزم» و«يا اللى رايح تحج البيت»، و«زمزم» كانت إحدى السفينتين التابعتين للشركة المصرية للملاحة، والمخصصتين لنقل الحجاج، إلى جانب السفينة «كوثر». كما قدم المطرب صالح عبدالحى أغنية «ضيف النبى مكروم» من كلمات بديع خيرى وألحان محمد القصبجى. وفى عام 1937، غنت المطربة حياة محمد أغنية بعنوان «عودة الحجاج» من كلمات يونس القاضى وألحان عبده قطر، تقول كلماتها: «ما أحلى وقوفنا يوم عرفات ودخولنا فى روضة الهادى، ورحنا ويانا حاجات واليسر فى الركب يحادى، الحمد لك يا رب وفقت طلعت حرب أنشأ بواخر مصرية كوثر وزمزم فى المية.. يمشوا على كفوف الراحة والشيلة دايما مرتاحة». واستمر تتابع الأغانى المرتبطة بالحج، ففى عام 1938 كلفت الإذاعة المصرية، بناءً على طلب رائد الاقتصاد طلعت باشا حرب، المطرب فريد الأطرش بتلحين وأداء أغنية كتبها بديع خيرى بعنوان «محمل الحجاج»، جاء فى مطلعها: «عليك صلاة الله وسلامه، شفاعة يا جد الحسنين، دا محملك رجعت أيامه، هنية واتهنت به العين». وتحمس فريد الأطرش كثيرًا للأغنية، وسجلها بصوته، وظلت تُذاع طوال عام كامل، لكن فى عام 1939، وبعد طلاق شقيقته أسمهان من الأمير حسن الأطرش وعودتها إلى مصر، بدأت الصحف تتابع أخبارها بكثافة، وتنشر عنها أخبارًا سلبية، تصفها بالاندفاع والتهور، وتتناول حياتها الشخصية، بما فى ذلك شائعات عن إدمان الخمر، وفى محاولة منه لحماية صورة شقيقته وتكذيب الشائعات المتداولة، قرر فريد أن يُعيد تقديم الأغنية بصوت أسمهان، فأعطاها «محمل الحجاج» لتغنيها، وتم بثها لأول مرة فى سبتمبر 1939 بعنوان «عليك صلاة الله وسلامه»، ومنذ ذلك الوقت، اختفت النسخة الأصلية بصوت فريد الأطرش، رغم وجود نسخة نادرة منها محفوظة فى أرشيف إذاعة «BBC» البريطانية. وتُعد «يا رايحين للنبى الغالى» التى أدتها الفنانة ليلى مراد من أشهر الأغانى المرتبطة بالحج، وقد جاءت ضمن أحداث فيلم «بنت الأكابر» الذى شاركت فى بطولته إلى جانب أنور وجدى، الأغنية من ألحان الموسيقار رياض السنباطى، وكلمات أبوالسعود الإبيارى، لم تكن الأغنية مجرد عمل فنى، إذ جاءت لتؤكد اعتناق ليلى مراد الإسلام وتغلق الأبواب فى وجه بعض المشككين، كما نفت الشائعات التى روّجتها الصحافة الإسرائيلية فى ذلك الوقت بشأن ديانتها ومواقفها. فى أواخر الأربعينيات، قدّم المطرب محمد فوزى واحدة من أبرز أغانى الحج ضمن فيلمه «حب وجنون»، وهى أغنية بعنوان «الله أكبر» من كلمات عبدالعزيز سلام، والتى جاءت بداية كلماتها: «الله أكبر الله أكبر، ياللى زرت البيت وللحرم حجيت، من زمزم اتوضيت وعَ النبى صليت، نادى الهوى لبيت من فوق جبل عرفات، وبالسلامة جيت وعدت بالبركات». فى عام 1951، قدّمت كوكب الشرق أم كلثوم واحدة من أروع الأغانى المرتبطة بالحج، وهى أغنية «إلى عرفات»، من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقى، وكتب شوقى هذه القصيدة فى عام 1910 بمناسبة توجه الملك أحمد فؤاد إلى مكةالمكرمة لأداء مناسك الحج، وجاء مطلعها: «إلى عرفات الله يا خير زائر، عليك سلام الله فى عرفات، ووجهك وضاء الجبين كأنّه، وسيمُ جمالٍ للبشر قسمات»، كما غنت أم كلثوم أيضًا واحدة من أشهر الأغانى المرتبطة بالحج والزيارة النبوية، وهى «القلب يعشق كل جميل»، من كلمات محمود بيرم التونسى وألحان رياض السنباطى، وتُعد من أبرز الأعمال التى عبّرت عن الشوق الروحى إلى بيت الله الحرام والحب العميق للنبى محمد، ومن أشهر مقاطعها: «دعانى لبيته لحد باب بيته، لما تجلّى لى بالدمع ناجيته، جينا على روضه، هلا من الجنة، فيها الأحبة تنول كل اللى تتمنى». أغنية «رايحة فين يا حاجة» من الأغانى الشعبية الشهيرة التى يرددها الحجاج دوماً، وقد غناها العديد من المطربين والفنانين حتى أصبحت جزءًا من التراث الشعبى المرتبط بالحج، ولكن النسخة الأصلية للأغنية تعود للفنانة الشعبية نعمة السنباطى، التى سجلتها عام 1982 على شرائط الكاسيت، وتبدأ كلمات الأغنية بمطلع مألوف يقول: «رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة، رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة». وعلق الناقد طارق الشناوى على ارتباط وجدان الجمهور بأغانٍ معينة عن الحج فى تاريخنا الغنائى منذ الخمسينيات، ولم تشهد السنوات التالية نجاح أغنيات أخرى، أو محاولات لتقديم أغانٍ جديدة، وقال، فى تصريحات ل«المصرى اليوم»: «يا رايحين للنبى الغالى» بالفعل من أجمل الأغنيات على المستوى الإخراجى، حيث قدمها أنور وجدى بإبداع عظيم، وكانت من أجمل وأروع الأغانى الدينية التى استطاع أن يستحضر من خلالها كل تفاصيلنا الشعبية، خاصة أن الحج فى الضمير الجمعى المصرى وليس العربى هو حالة احتفالية، نحن نحتفل بها من بداية نزول الحج فى الشارع، ورسم الجمل، فهذه طقوس مصرية رغم أن بعضها اختفى مع مرور الزمن لكن سنجد منها بقايا فى بعض البيوت القديمة فى المناطق الشعبية، مثل السيدة زينب، وباب الشعرية، وهذه المناطق القديمة تجدهم يرسمون الجمل، الذى ترجع قصته إلى أنه كان الوسيلة قديما فى الذهاب إلى الحج، لذا فهو من الطقوس الدينية الشائعة. وتابع «الشناوى»: «يا رايحين للنبى الغالى»، جاءت خلال أحداث فيلم «ليلى بنت الأكابر»، كان سيناريو الفيلم كُتب، وهناك إضافة بخط الفنان الراحل أنور وجدى، وكذلك جزء منها بخط المؤلف والشاعر الراحل أبوالسعود الإبيارى فى السيناريو الأصلى للفيلم، وفى السيناريو الأصلى نجد أن المشهد حينما كاد يذهب الفنان الراحل زكى رستم لأداء فريضة الحج. وأوضح: «دراميا كتب السيناريو الفنان أنور وجدى، وكذلك الشاعر أبوالسعود الإبيارى، على هذا النحو، ولكن الغريب فى الأمر بمناسبة الأغنية تحديدًا على التترات وهذا موضوع شائك جدًا لأننا سنجد أنه كُتب عليها تأليف حسين السيد، ودائما ما نرجع إلى قراءة التترات للتوثيق حينما نبحث عن كاتب أى فيلم أو أغنية». وأوضح «الشناوى» أن الغريب فى الأمر أن التتر أخطأ ونسب الأغنية إلى الشاعر حسين السيد، ولكن من الممكن أن يكون الفنان أنور وجدى تعمد ذلك، ومن الممكن أنه حينما يختلف مع أحد لا يذكر اسمه، أو ينسب المجهود إلى غيره، فلا أعلم إذا كان هذا تم عن قصد أو لا. وتابع: «بالطبع أبوالسعود الإبيارى توفى نهاية الستينيات، بينما حسين السيد توفى مطلع الثمانينيات، فإذا كان (الإبيارى) ادعى ذلك، فمن المؤكد أن حسين السيد يسرد الحقيقة وهو حى آنذاك، لذا فأظن أنه خطأ ارتكبه بقصد أو غير قصد أنور وجدى، والحقيقة أن الأغنية بالفعل لأبوالسعود الإبيارى».