نواصل عرضنا النقدى لتصورات الرئيس أوباما المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية بصفة عامة، وبأهدافها فى الشرق الأوسط بصفة خاصة، ونقلنا شرحه للأهداف التى حكمت سياساته منذ وصوله إلى البيت الأبيض. ويقول الرئيس أوباما إنه فوجئ بالربيع العربى، ويضيف أنه لا يعرف خبيرًا أو حكيمًا أو أكاديميًّا تنبَّأ به، وقد يصدم هذا الحديث أصحاب نظريات المؤامرات التى ترى فى الثورات العربية لعبة أمريكية جديدة تستهدف هدم الدول وتفتيت المنطقة لصالح إسرائيل، ولكننى أصدّقه، لأننى سألت دبلوماسيين وصحفيين أوروبيين كانوا يعملون فى واشنطن آنذاك، وأجمعوا على رواية مفادها أن الثورات صعقت وشلَّت الإدارة الأمريكية، التى اكتشفت فجأة لاعبين مجهولين وقوى سياسية جديدة وقدرة الجميع على حشد شعوب قامت وقالت كلمتها، وأستطيع أن أؤكد أن جمهور الخبراء الغربيين كان يعتقد أن نظام مبارك قادر على الاستمرار، وأن الشعوب لم تعد تهتم بالسياسة، باستثناء بعض الزملاء لم ينتبه أحد إلى مقولاتهم. ويقول أوباما: كان علينا التأقلم السريع -لاحظ دلالة تلك الكلمة- مع التغيرات الضخمة والمفاجئة والمضطربة دون أن نغيّر أهدافنا الرئيسة، التى لا تزال البوصلة التى توجه السفينة، ويضيف الرئيس أن هناك أسبابًا قوية للقلق، وأن أسباب القلق تضاعفت منذ اندلاع الربيع العربى، ويذكر منها ما يسميه «قوى الفوضى» المتمثلة فى الطائفية التى تمزّق سوريا، وبدرجة أقل العراق، وعجز الفلسطينيين والإسرائيليين عن التعاون، ناهيك بالتوصل إلى اتفاق سلام، والتآكل المستمر للدولة فى بعض البلاد، مثل اليمن، ويرى الرئيس أن الشرق الأوسط يمر بمرحلة صعبة وقاسية، وأن الولاياتالمتحدة تدير الأزمات بطريقة تحفظ مصالحها وأرواح مواطنيها، وأنها تحاول تحقيق قدر من الاستقرار بالعمل على تشكيل حكومة عراقية تمثّل فيها كل الطوائف، وبالسعى إلى التوصل إلى اتفاق تاريخى مع إيران. من الواضح أن مقاربته تفترض أن قدرة الولاياتالمتحدة على التأثير على مجريات الأمور فى المنطقة محدودة، وأن فترات المد الثورى فترات لا تسمح برسم استراتيجيات طويلة الأجل، وأن شعار المرحلة هو إدارة الأزمة، والحفاط على الأرواح والمصالح، ومحاولة بناء جسور مع القوة الوحيدة التى تبدو متماسكة، واثقة من نفسها، طموحة -أى إيران- وعلينا أن ندرك أن مصر والمملكة العربية السعودية انتبهتا مؤخرًا إلى هذا التوجه، وقررتا إثبات خطأ الفرضيات التى بررت هذا الخيار. بالطبع لا ندرى إن كان هذا التصوُّر لازم الرئيس الأمريكى منذ اندلاع الربيع العربى، أم كان نتاج تجربة التفاعل مع القوى السياسية التى برزت مع الربيع العربى، وتحديدًا الإخوان المسلمين، عاكسًا لخيبة أمل كبيرة. ما يهمنا هو إحساسه بعدم جدوى محاولة حل عدد كبير من القضايا الشائكة، ومن حقنا طبعًا أن نستغرب من هذا الإحساس بالعجز، فمن منظور القاهرة أو الرياض، تملك الولاياتالمتحدة العديد من الأوراق، ومن أدوات الضغط، ولا تكف عن التدخل السخيف والصغير وعن إلقاء المحاضرات. هذا التباين بين تصورات العاصمتين العربيتين وتصورات أوباما هو تباين فى تقدير وتقييم قوة الولاياتالمتحدة، ويبدو لى أن أحد أسبابه هو مثالية الرئيس الأمريكى وواقعيته، فهو يريد ديمقراطيات تستوعب كل القوى السياسية، ويعى أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع خلقها فى بيئة تتسم بالاستقطاب العنيف، ويعى أن التدخل العسكرى الغربى لا يخلق ديمقراطيات، ويعى أيضًا حدود القوة الناعمة الأمريكية، ورتّب على هذا التشخيص مبدأ هامًّا مفاده أن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن الولاياتالمتحدة لن تتدخل إلا فى القليل النادر، ولا أدرى إن رتب على هذا ضرورة السعى إلى الاتفاق مع وكيل إقليمى جديد، أو اعتقد أن «مقاربة إدارة الأزمات» تقتضى الاكتفاء بردود أفعال عندما يجد الجديد، غير منتبه إلى أوجه قصور هذا المنهج، وللحديث بقية.