مع انتهاء الانتخابات الأمريكية بنجاح باراك أوباما، ظهر الكثير من الإعلاميين مبتهجين بوصفه الخيار الأفضل للعرب على عكس المرشح الجمهورى رومنى الأكثر تشددًا والأوثق علاقة بإسرائيل، وبالرغم من تفهم الارتياح الشعبى لدى العرب والمسلمين لنجاح باراك أوباما بوصفه أول رئيس مُلون من أصول مسلمة يصل للبيت الأبيض فإن هذا لا يعنى أن أوباما يملك اتخاذ سياسات تغير من التوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة فى المنطقة، والتى تعد خطًا أحمر لدى صناع القرار الأمريكيين، والمتمثلة بالأساس فى الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها العسكرى والهيمنة على المنطقة لتأمين تدفق النفط العربى إلى الغرب. لكن الأعجب أن يدعى بعض الإعلاميين أن أوباما هو القائد الفعلى للربيع العربى ولولاه ما نجحت ثورات الحرية فى تونس ومصر وليبيا، بينما يتبين للمراقب أن أمريكا قد فوجئت باندلاع ثورات الحرية واضطرت لاتخاذ ردود أفعال لا تتصادم مع الحراك الشعبى العارم فى الشارع، ولو افترضنا أن أوباما امتلك الخيار لسعى لتثبيت أركان الأنظمة القمعية البائدة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والمتتبع للموقف الأمريكى حيال ثورات العرب يمكنه استنباط دلالات عديدة منها: 1- أن أمريكا سعت دائمًا لتثبيت أركان الأنظمة المستبدة الموالية لها فنظام (مبارك) كان ركنًا أساسيًا فى الحلف الصهيونى الأمريكى، ومن يردد تصريح أوباما فى1 فبراير 2011 (على مبارك أن يرحل الآن) عليه أن يتذكر تصريح وزيرته كلينتون ليلة 25 يناير (مصر دولة قوية ونظامها مستقر)، مما يعنى أنهم لم يتخلوا عن المخلوع استجابة للغضب الشعبى الكاسح بل طالبوه بالرحيل بعد أن استنفد دوره وفقد قدرته على الاستمرار فى خدمتهم، وقد حرص أوباما ألا تتحول مصر إلى دولة معادية لأمريكا مما أوجب عليه التماهى مع الثورة ومن ثم السعى لاحتوائها أو إفشالها عبر أوراق الدعم والضغط المتنوعة. 2- كانت المواقف الأمريكية طوال المرحلة الانتقالية تستهدف إجهاض الثورة عبر إفشال المسار الديمقراطى لعرقلة وصول الإسلاميين للسلطة، فقد صرحت السفيرة "آن باترسون" فى 23يونيو2011 (بأن الولاياتالمتحدة أنفقت منذ ثورة 25 يناير 40 مليون دولار لدعم الديمقراطية فى مصر، وأن600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية)، فما بالنا بحجم ما أنفقوه حتى نوفمبر 2012 فى الدعم المادى والإعلامى لفلول النظام البائد وللقوى السياسية الليبرالية والعلمانية المسيطرة على معظم الأحزاب ووسائل الإعلام. 3- سعت أمريكا إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية لحرصها على بقاء مقاليد الحكم والقرارات الحاسمة بين يدى رجالها من عسكر مبارك ومخابرات عمر سليمان، وكان من الملحوظ الزيارات المتلاحقة أسبوعيًا من الوفود الأمريكية الرسمية والمستقلة التى تلتقى بالمجلس العسكرى وبقادة الأحزاب، مما يوضح اهتمام السياسة الأمريكية بتفاصيل الشأن المصرى، وأغلب الظن أن الإدارة الأمريكية كان لها دور كبير فى الترتيبات الواسعة التى كادت تصل بمرشح النظام البائد شفيق إلى القصر الجمهورى. 4-أما وقد اتضح للإدارة الأمريكية أن الربيع العربى قد انقلب إلى شتاء إسلامى ينذر بتراجع حقيقى للهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، فوصل الإسلاميون للسلطة فى تونس ونجح الرئيس مرسى كأول رئيس مدنى منتخب فى مصر، فلا مفر من أن تسعى أمريكا لاحتوائهم وأن تتبع معهم سياسة الترغيب والترهيب، ففى مصر تصورت الإدارة الأمريكية أن السلطة يمكن تقاسمها بين الرئيس والعسكر بما يشابه الوضع الباكستانى إلا أنها سرعان ما أدركت أن الرئيس مرسى سينتزع السلطة التنفيذية كاملة، لذا جاءت ردود الفعل الأمريكية هادئة على قرارات 12 أغسطس التاريخية التى أطاحت بالعسكر، ورغم إرسال الرئيس لرسالة تفيد بتحرره من القيود الأمريكية عبر زياراته الخارجية للصين ثم لإيران، والتى سبقت زيارته لواشنطن، إلا أن امتلاك أمريكا لأوراق ضغط سياسية واقتصادية عديدة على الحكومة والجيش المصرى الذى يعتمد على السلاح والمعونة العسكرية الأمريكية (1.3 مليار دولار سنويًا)، وأولويات ترتيب البيت المصرى ككتابة الدستور وتطهير هياكل الدولة والتنمية الاقتصادية ستضعف من قدرة مصر على اتخاذ سياسات خارجية مناوئة لأمريكا أو قرارات حاسمة بشأن العلاقة مع إسرائيل سواء بتعديل أو إلغاء (كامب ديفيد)، وفى هذا الشأن يمكن تأمل تصريح أوباما فى 23 سبتمبر2012 فى مقابلة أجرتها معه شبكة تيليموندو التليفزيونية: "لا أعتقد أننا نعتبرهم (المصريين) حلفاء، ولكننا لا نعتبرهم أعداء أيضًَا". 6- يتضح الموقف الأمريكى البراجماتى من الثورات العربية من سياستها إزاء سوريا، إذ تكتفى بإدانة المذابح التى ترتكبها عصابة بشار بينما لا تتحرك بجدية لا فى الأممالمتحده لفرض حصار جوى يحمى الثوار، ولا لاتخاذ قرار عبر حلف الناتو بالهجوم العسكرى لإيقاف جرائم الحرب اليومية، كما تم فى حرب كوسوفا وفى احتلال العراق، فالأمر إذن لا يتعلق بمبادئ الديمقراطية أو الليبرالية أو حقوق الإنسان التى تشدق بها أوباما وأسلافه سنين طويلة، وإنما يتعلق بالمصالح الأمريكية والصهيونية التى تعتبر نظام البعث الذى لم يطلق طلقة فى الجولان طوال 40عامًا هو الأفضل لأمن إسرائيل، كما أن نجاح الثورة والتحول لنظام ديمقراطى سيحمل الإسلاميين لمقاعد السلطة فى سوريا مما يمثل خطرًا كارثيًا على الأمن والوجود الصهيونى حين يحكم الإسلاميون مصر وسوريا، الدولتان الأكبر من دول الطوق. إن ثورات الربيع العربى تمثل النواة الحقيقية لتحرر الشعوب العربية من الهيمنة الأمريكية على مقدراتها، فهل من المعقول أن تشجعها الإدارة الأمريكية، فضلاً عن أن تقودها؟. [email protected]