بدأنا الأسبوع الماضى مشوارًا مع تصورات الرئيس أوباما كما يعرضها هو، وقلنا إنه يرى أن سياسته لا يمكن وصفها بالواقعية الصرفة أو بالمثالية المفرطة، لأن السعى لبناء نظام دولى تحكمه قواعد قانونية يلبّى مصلحة أمريكية عليا فى ضوء تراجع الرغبة الأمريكية فى اللجوء إلى الحسم العسكرى. ونضيف هنا أنه اختزل الواقعية الصرفة فى مساندة الديكتاتوريات التى تصادق واشنطن والمثالية المفرطة فى السذاجة التى تفترض أن الولاياتالمتحدة ليس لها أعداء، وأن اللاعبين الدوليين نيتهم سليمة، وأن كل مشكلة يمكن حلها بالحوار. ومن السهل بيان فساد هذا الاختزال، لكننا نفضّل التركيز على دلالته، الرئيس أوباما يعتقد اعتقادًا راسخًا أن مساندة الديكتاتوريات، وافتراض حسن نية الأطراف الدولية محظورات وخطايا يجب عدم ارتكابها ما دام كان ذلك ممكنًا، وبما أنه يرى فى النظام المصرى الحالى نظامًا قمعيًّا جاء على أسنة الرماح، سنجده دائمًا متحفظًا تجاهه مهما كان التأييد الشعبى المصرى للرئيس السيسى كاسحًا. لا نقول إنه لن يعمل ولن يتعاون مع القاهرة، نقول فقط إنه سيحاول العثور على بدائل أخرى، وإن العمل مع النظام الحالى لن يكون أبدًا خياره المفضل، بل شر لا بد منه. يعتقد الرئيس أوباما أن الفوضى تشكل أكبر تحدٍّ تواجهه الولاياتالمتحدة، منبعا الفوضى هما الدول الفاشلة والتهديدات الإرهابية، ويقول إنه حاول جاهدًا خلق أدوات جديدة لمواجهة هذا التحدّى، لكى لا تظل واشنطن معتمدة على أدواتها التقليدية، وأن إنهاء وجود 180 ألف عسكرى فى العراقوأفغانستان كان ضروريًّا، لا لأن هذا الإنهاء سيخفف من عداوة المنظمات الإرهابية للولايات المتحدة، بل لإيقاف النزيف المالى، ولتوجيه الموارد المالية والبشرية نحو ما هو أجدى، استرداد القدرة على التدخل السريع فى مناطق أخرى، مضاعفة ميزانيات أمن الشبكات المعلوماتية ومنظومات الاتصالات... إلخ. ولنا هنا بعض التعليقات، من الواضح أن الدول الكبرى، غربية كانت أم شرقية، تواجه كابوسًا استراتيجيًّا، هو قدرة التنظيمات الإرهابية على الوجود العسكرى فى المناطق التى لم تعد تخضع للسيطرة الفعلية لدولة، وما أكثرها! فى اليمن والصومال والشام وليبيا وأجزاء من باكستان ومن أفغانستان ومن نيجيريا ومالى... إلخ. لا تستطيع الدول الغربية إرسال قوات كلما وحيثما ظهرت تلك المشكلة وتفافمت، عليها تحديد أولوياتها والبحث عن حلفاء. والصعوبات الملازمة للاعتماد على الحلفاء لا تحصى، وأظن وقد أكون مخطئًا أن الرئيس أوباما لم يعط للقضية حقّها. من ناحية، يبدو أن الرئيس الأمريكى ما زال يعتقد أن ممارسات الدول القمعية الشرق أوسطية هى السبب المباشر والرئيس لنمو الإرهاب وتمدده، وبالتالى يرى أن الاعتماد عليها يؤدى -إن آجلًا أو عاجلًا- إلى تفاقم المشكلة، ويبدو أيضًا أنه يواجه صعوبات فى قبول مقولة بعض الأنظمة العربية التى ترى فى جماعة الإخوان جزءًا من المشكلة وليست جزءًا من الحل وفى قبول حل الدولة القوية، وعلينا أن نعذره فى ذلك، وأن ندرك هول فظائع بعض الأنظمة العربية. من ناحية أخرى يؤدى الاعتماد على الحلفاء للاضطلاع بمهام أمنية وعسكرية إلى نتائج غير متوقعة وغير مرغوب فيها أمريكيًّا. فالتبعية تصبح متبادلة وتتأثر قدرة واشنطن على فرض إملاءات بالسلب، عندما قدر الرئيس نوريجا أن المخابرات المركزية لا تستطيع الاستغناء عن خدماته توسع فى تجارة المخدرات وتهريبها إلى أمريكا، لم يسع الرئيس اليمنى السابق علِى عبد الله صالح للقضاء على تنظيم القاعدة، لأن وجوده قويًّا كان يضمن استمرار المساعدات الأمريكية لنظامه، اكتشف أوباما أنه لا يستطيع فرض رؤيته على المؤسسة العسكرية المصرية. وأنفقت واشنطن بلايين الدولارات على تسليح الجيش العراقى وبعض فصائل المقاومة السورية وفى تدريب ضباط عراقيين، إلا أن رئيس الوزراء السابق نورى المالكى تخلَّص من أغلب الضباط الذين تلقّوا تلك التدريبات، ونجح التنظيمان داعش وجبهة النصرة فى الاستيلاء على كميات وفيرة من الأسلحة الأمريكية. وللحديث بقية.