الكثيرون فى العالم العربى يشدِّدون على أوجه الخلاف بين الأنظمة السياسية الغربية والعربية، ويقولون إن السياسة الخارجية فى الدول الغربية ترسمها المؤسسات ولا تخضع لأهواء الحاكم، والواقع أن تلك المقولة على صحّتها النسبية تحتاج إلى كثير من التدقيق والتحديد، فالمؤسسات مكوَّنة من أفراد لهم أهواؤهم وقناعاتهم وصراعاتهم وحساباتهم، وللمؤسسات أُطر وذاكرة جمعية قد تسهل من عمليات قراءة الواقع واتخاذ القرار وقد تعيقها، وهناك رؤساء يستطيعون توجيه عمل المؤسسات ورجالها، وآخرون يتركون المؤسسات تحكمهم، هناك رؤساء يعملون من خلال المؤسسات وآخرون يتجاهلونها، والوضع الغالب يتأرجح بين النقيضَين على حسب اهتمامات الرئيس وقوة شخصيته وقدراته وشعبيته وكفاءة المؤسسات والمشرفين عليها ومواقف الرأى العام والإعلام، والعمل السياسى الغربى لا يتميَّز بعقلانية كاملة إلا فى القليل النادر. للرئيس أوباما بصماته الواضحة على السياسة الخارجية الأمريكية، فهو استطاع أن يركِّز السلطات فى ما يتعلق بشؤون الدفاع والأمن القومى والعلاقات الدولية فى البيت الأبيض بدرجة غير مسبوقة فى العقود الأخيرة، وبالتالى من المهم جدًّا أن نحاول التعرُّف على تصوراته وفكره، لا سيما إن أقمنا المقارنة بين ذكائه الحاد ومهنيته الشديدة والأداء المخيّب للآمال لسياسته الخارجية، آمال أنصاره وحلفائه ومحاسيبه. ونعلم أن هناك مَن قال إن سياسته الخارجية تنتمى إلى مدرسة تجمع بين الواقعية الشديدة ونوع من الانعزالية المفرطة، وتحاول أن تخفى ذلك بطرح شعارات شديدة المثالية، وهناك من قال إن الرئيس أوباما وصل إلى مقعد الحكم مصممًا أن لا يكرر أخطاء الرئيس بوش، وركَّز بصفة أساسية على الانسحاب من الجبهات المتعددة التى فتحها الجمهوريون الذين جنّ جنونهم بعد 11 سبتمبر، وأن هذه الرغبة فى إنهاء عصر التدخُّلات العسكرية غير المحسوبة أعمته فى الكثير من الأحوال، فلم يتوقَّع تبعات هذه الانسحابات المتتالية من فوضى ومن فتح شهية المنافسين والأعداء، ومن انخفاض مصداقية الردع الأمريكى، وهناك مَن قال إن الرئيس الأمريكى الجديد ممثل ومجسّد للتيارات اليسارية الما بعد الحداثية السائدة فى الجامعات الأمريكية، ممثل لقراءاتها للواقع والتاريخ ولإيجابياتها وسلبياتها، وأن فهم الرئيس أوباما يقتضى فهم مدارس ما بعد الحداثة، وهناك مَن لخَّص سياساته الخارجية فى محاولة جادة للجمع بين تقليم أظافر المجمع العسكرى الصناعى الأمريكى وتخفيض ميزانيات الدفاع وإعادة نشر القوات الأمريكية لتركيزها على شرق آسيا على حساب الشرق الأوسط وأوروبا الغربية، ولم يلتفت إلى التأثير الكارثى لانسحابه المتسرّع من العراق، الدولة التى دمَّرها سلفه، على الشرق الأوسط برمته. كل هذه التحليلات تبدو صائبة، تساعدنا على الاقتراب من الحقيقة، وباستطاعتنا مناقشتها بشىء من التفصيل، إلا أننا نفضّل اللجوء ولو مؤقتًا إلى تحليل خطاب وتصورات الرئيس أوباما، كما قدّمها بنفسه فى لقاءات ومقابلات عديدة، لنحاول تحديد منظومة قيمه وتشخيصاته للواقع وتصوراته للسياسة الواجب اتباعها، ونفترض أن هذه المنظومة تفسِّر جزئيًّا الحصاد السلبى لأدائه على الساحة الدولية. يقول الرئيس الأمريكى إن سياسته تجمع بين الواقعية والمثالية، وإن افتراض وجود تعارض تام بين المقاربتَين ساذج، لأن نقطة انطلاق رسم أى سياسة خارجية تكمن فى الاعتراف بأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع حل كل مشكلاتها ومشكلات العالم باللجوء المنفرد إلى القوة العسكرية، جيشها يستطيع أن يسحق أى قوة عسكرية فى العالم، ولكنه لا يستطيع محاربة الجميع دائمًا، والإقرار بتلك الحقيقة (نرى مدى تأثير أساليب بوش الابن على رؤيته للأمور) يؤدّى حتمًا إلى محاولة إخضاع العلاقات الدولية لحكم قواعد قانونية ومواثيق دولية وإلى السعى للحل السلمى للمنازعات، لأن المصلحة العليا الأمريكية تقتضى التقليل من الاعتماد الدولى على قواتها المسلحة، وهذا السعى لإقامة نظام دولى يخضع لقواعد قانون لا يحول دون الاعتراف بأن هناك مَن لن يلتزم بها، ومَن سيمارس البلطجة ويلجأ إلى القوة ويدعم الإرهاب، لتحقيق مآربه ولإيذاء الولاياتالمتحدة وتهديد مصالحها، وللحديث بقية.