بعد الابتسامات العريضة أمام كاميرات التليفزيون والتحيات المتبادلة، لم يقدم الرئيسان أوباما ومبارك الكثير للتفكر بشأن ما دار بينهما فى المكتب البيضاوى يوم الثلاثاء. تاريخيا، كانت أجواء القمم الرئاسية وتخيلاتها على القدر نفسه من الأهمية كمادة، إن لم تكن أكثر. واجتماع أوباما ومبارك نموذج لكيف تؤثر الرمزية فى الواقع السياسى. رحب الرئيس الأمريكى بحرارة بنظيره المصرى فى البيت الأبيض، وتلك هى الزيارة الأولى له منذ خمس سنوات، وقد امتدحه «زعيما وناصحا وصديقا للولايات المتحدة». ورد مبارك بتحية أوباما «على كل جهوده فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية». وقال إن خطاب أوباما إلى المسلمين من القاهرة كان «عظيما ورائعا» وأزال «كل الشكوك» التى فى عقول المسلمين بشأن كون «الولاياتالمتحدة معادية للإسلام». وفيما يتجاوز المحسنات البلاغية، هناك توترات واختلافات هيكلية أساسية فى العلاقة الأمريكية المصرية قلل من شأنها كل طرف وتجاهلها. وليس سرّا أن مبارك لم يزر واشنطن خلال السنوات الخمس الماضية، كما كان يزورها من قبل سنويا، لقوله إنه لم يكن سعيدا ب«مواقف» حكومة بوش. وقد اكتسب بوش غضب مبارك بسبب تشجيعه العلنى وبشكل عنيف للديمقراطية وحقوق الإنسان والاضطراب الذى أحدثه غزو أمريكا للعراق واحتلاله مما سمح لإيران بأن تكون لها اليد العليا هناك وتنشر نفوذها إلى ما وراء ذلك. أجندة أوباما السياسية فى البداية، خشى مبارك ورجاله من أن تؤدى أجندة باراك أوباما الخاصة بالسياسة الخارجية إلى مزيد من التأكيد على الحكم الرشيد وحقوق الإنسان وتقديم صفقة ممتازة لإيران على حساب مصر. وقد أعدوا أنفسهم لعاصفة أكثر عنفا فى العلاقات المصرية الأمريكية. ولكن ثبت أن مخاوفهم لا أساس لها من الصحة. هناك فاصل نظرى كبير يفصل بين مبدأ بوش الذى كان يعتنق الإطلاقية الأخلاقية (الدعوة إلى الديمقراطية فى العالم) والحرب الوقائية ضد البلدان التى يتصور أنها تشكل تهديدا محتملا وتأكيد أوباما على الاتصال السياسى والشراكة والتعددية. لقد قالها أوباما بوضوح فى مناظرة ديمقراطية عام 2007: «لن يكون مبدأ أوباما كمبدأ بوش فى سعيه للتطبيق دون مراعاة لصعوبة ذلك، لأن العالم معقد..» ويعنى هذا الآن أكثر من أى وقت مضى، أن الدبلوماسية والتواصل مهمين لإعادة بناء «تحالفاتنا، وإصلاح علاقاتنا فى أنحاء العالم، بل وجعلنا أكثر أمنا على المدى الطويل». تقوم سياسة أوباما الخارجية من الناحية النظرية على الواقعية السياسية الجديدة (فى مقابل الليبرالية المستنيرة) التى يتم تعريفها بأنها الحفاظ المصالح القومية الأمريكية. وبعد مرور سبع سنوات على بدء الحرب العالمية المكلفة على الإرهاب، اعترف أوباما بأن أمريكا فى حالة مزاجية تميل إلى التسوية وعدم التصعيد العسكرى وفتح قنوات الاتصال الدبلوماسى. وذكّر الأمريكيين مرارا بميراث بوش المر وعجرفته اللذين لطخا وضع البلد فى العالم وجعلا الأعداء أكثر من الأصدقاء. وفى وقت سابق قرر أوباما إعادة العلاقات المصرية الأمريكية إلى ما قبل عصر بوش بالتأكيد على أهمية الأمن والاستقرار الإقليميين أكثر من الممارسات السياسية والديمقراطية. وفى البناء الجديد لسياسته الخارجية تؤدى مصر ثلاث وظائف إقليمية مهمة لواشنطن: التوسط فى عملية صنع السلام العربى الإسرائيلى، وإبقاء حماس تحت السيطرة، وموازنة النفوذ الإيرانى فى الحلبة العربية. وفى اجتماع البيت الأبيض، أمضى أوباما ومبارك معظم الوقت فى مناقشة الطرق والوسائل الخاصة بإعادة بدء مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية على نحو أكثر حيوية وملف إيران النووى. ولكن يبدو أنه لم يتم تحقيق إنجاز كبير على أى المسارين. فأوباما قال إنه رأى «تحركات فى الاتجاه الصحيح» بشأن مسألة بناء المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ولكنه سارع بإضافة قوله «لم نصل إلى ما نريده بعد». وقد بذل الرئيس الأمريكى جهدا كبيرا فى الحد من التوقعات الخاصة بحدوث إنجاز كبير على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية. وحذر مستمعيه مرارا من أن جمع المعسكرين على طاولة المفاوضات «سوف يتطلب الكثير من العمل المضنى» و«سوف يكون صعبا» و«سيقتضى وضع أسس جديدة». إن ما حاول أوباما توصيله من الناحية الدبلوماسية هو أن تقدما قليلا قد تحقق حتى الآن، وأن هناك طريقا طويلا لابد من قطعه. فلتحبسوا أنفاسكم من أجل خطة سلام أمريكية! لقد ضغط فريق أوباما على مبارك كى يستخدم نفوذ مصر مع الزعماء العرب لإقناعهم باتخاذ خطوات ملموسة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولكن جاء رد مبارك فى أعقاب اجتماع البيت الأبيض يشير إلى أنه لم يتبن نفس خط تفكير واشنطن. وأكد الزعيم المصرى أهمية أية خطة سلام تعالج قضايا الوضع النهائى، بما فى ذلك القدس واللاجئون والحدود، وليس المسائل المؤقتة المجزأة كالمستوطنات والتطبيع. على عكس سابقتها، تسعى الإدارة الحالية إلى مقاربة مقيدة ودقيقة لمسائل حقوق الإنسان وحكم القانون فى مصر. ولن يضغط أوباما على مبارك دفاعا عن المعارضين المضطهدين. ومن غير المرجح أن يكون هناك تساؤل يتسم بالشدة أو توبيخ علنى من جانب واشنطن فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان فى مصر. على سبيل المثال، عندما سئلت وزيرة خارجية أمريكا عن حقوق الإنسان فى مقابلة أجرتها معها قناة العربية فى شرم الشيخ فى مارس 2009 قلبت السؤال رأسا على عقب: «سوف تكون أمامنا فسحة للتحسن. فالولاياتالمتحدة.. تتحرك نحو معالجة بعض المشاكل التى قابلتنا. ونحن ننظر إلى حقوق الإنسان على أنها أمر شديد الأهمية.. ونرغب فى حث الآخرين على إحداث تقدم». بعبارة أخرى، فإن واشنطن سوف «تحث» القاهرة، ولن تمارس الضغط عليها، كى تحترم حقوق الإنسان الخاصة بالمصريين، وهناك فرق كبير بين الأمرين. وعلى الرغم من حث جماعات حقوق الإنسان أوباما على السعى للحصول على ضمانات من الرئيس مبارك على إحداث تقدم كبير فى مجالى حقوق الإنسان والديمقراطية، لم يضغط أوباما علنا على نظيره المصرى كى يقوم بإصلاحات سياسية. وفى حديثه عقب اجتماعهما فى البيت الأبيض، اعترف أوباما بأن هناك «بعض المجالات التى لا زلنا مختلفين عليها»، المفترض أنها ممارسات الحكم فى مصر. ومع ذلك لم يشر الرئيس الأمريكى إلى ماهية هذه المجالات المختلف عليها. ومراعاة للضيف المصرى، لم ينطق بكلمات حكم القانون أو حقوق الإنسان. الأمر الذى يحمل فى ثناياه الكثير عن أولويات أوباما فى السياسة الخارجية وقراره الخاص بنقل مركز العلاقات الثنائية بين البلدين من السياسة الداخلية المصرية إلى الأمن الإقليمى. وتقوم مقاربة أوباما على صيغة تعود إلى أواخر السبعينيات، وهى مكافأة القاهرة على تنفيذ أوامر واشنطن فى شرق متوسط متقلب غير مستقر. ومن المفارقة أن الرئيس مبارك اعترف بأنه ومضيفه الأمريكى ناقشا الإصلاحات السياسية فى مصر. وقال مبارك إنه طمأن أوباما بأن كل الأمور تسير فى مسارها، وإنه سوف «ينفذ» بقية خطته الإصلاحية خلال العامين المتبقيين له فى الرئاسة. ولم يوضح مبارك ماهية الإصلاحات السياسية التى نفذها فى الفترة الأخيرة، كما وفر عليه الرئيس أوباما عناء الكثير من أسئلة وسائل الإعلام، حيث لم يسمح إلا بتوجيه سؤال واحدا فقط. وأدى تزامن زيارة مبارك لواشنطن مع عطلات الكونجرس، إلى عدم مواجهته لأسئلة غير مرغوب فيها من بعض أعضاء الكونجرس الذين لهم وجهة نظر نقدية بشأن سجل نظامه حول حقوق الإنسان والديمقراطية. أحوال مصر وأثرها فى السياسة الخارجية يخطئ مبارك ورجاله إن هم ظنوا أنهم استطاعوا تحسين دور مصر المتدنى وأهميتها الإستراتيجية لدى واشنطن. إذ يشعر المسئولون الأمريكيون، فى الخفاء بقلق شديد بسبب عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى المحتمل والافتقار إلى آلية للخلافة فى مصر. وهم منشغلون بشدة لأن الرئيس مبارك، البالغ من العمر 81 عاما وله فى الحكم 28 عاما، قد قمع المعارضة السياسية الشرعية وحول مصر التى اعتبرت تاريخيا قوة إقليمية محورية إلى دولة ضعيفة رخوة ابتليت بالفقر والفساد والتطرف. وترسم الإحصائيات صورة كئيبة عن حياة المصريين العاديين. فوفقا لمؤشرات التنمية العالمية الخاصة بالبنك الدولى، يعيش 43.9 % من المصريين على أقل من دولارين فى اليوم. وتشير مصادر الأممالمتحدة إلى أن الشباب تحت الثلاثين وهم يمثلون 60 % من التعداد يعانون إلى حد كبير جدّا، ولا يجدون فرص عمل جيدة ولا يستطيعون الزواج، ذلك أن واحدا من بين كل أربعة شبان مصريين عاطل. وتقدر البطالة بين الشباب المتعلم بمعدلات كبيرة، مما يثير السخط والإحباط، وهو ما يعد وصفة جيدة للاضطراب وعدم الاستقرار الاجتماعى. ومما يفاقم الوضع الاقتصادى الحرج، أن الأنظمة العربية بما فيها النظام المصرى، أتاحت للأغنياء مضاعفة ثرائهم على حساب الفقراء، بل والتباهى بثروتهم أمام أعين أناس يكافحون من أجل البقاء. ووفقا لمصادر للأمم المتحدة، فقد تزايدت فى النصف الأول من هذا العقد نسبة المصريين الذين يعيشون فى فقر مدقع، بينما كان الاقتصاد ينمو بمعدل أعلى من7% سنويا، مما أدى إلى امتلاء خزائن النخبة الثرية قليلة العدد. ولم تصل آثار هذا النمو إلى الغالبية الفقيرة التى طحنها التضخم المرتفع، وخصوصا مع الزيادة فى أسعار الغذاء التى بلغت 50% فى السنوات الأخيرة. وتمثل موجة القلاقل العمالية (وفقا لبعض التقديرات، شهدت مصر 255 نشاطا إضرابيا على الأقل هذا العام) تجليّا لخطورة الوضع الاقتصادى الاجتماعى القائم وشاهدا عليه. وإذا ما أراد مبارك ومستشاروه المقربون التعرف حقا على رؤية نخبة السياسة الخارجية الأمريكية لمصر اليوم (وهى تتجاوز إدارة أوباما)، فإن عليهم أن يقرءوا بتمعن التقارير والتحليلات المفزعة والكئيبة، وقد كتبتها مراكز أبحاث مؤثرة، وصحف سياسية، ومنظمات حقوق إنسان، ومنافذ إعلامية مختلفة، وجلسات استماع وشهادات لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكى. وعناوين هذه التقارير موحية مثل «مع وصول الرئيس المصرى مبارك إلى واشنطن، الاضطرابات العمالية تندلع فى بلده»؛ «هل مصر مستقرة؟»؛ «اضطرابات محتملة»؛ «بلد يجب مراقبته»؛ «مصر تتساءل إلى متى يستمر الزعيم المسن». وتصوَّر مصر مبارك باعتبارها رجل الشرق الأوسط المريض، أو بلدا فى حالة تدهور. وللأسف، هناك شبه إجماع بين نخبة السياسة الخارجية الأمريكية على أن مصر تترنح على حافة هاوية اجتماعية. وحذر المراقبون السياسيون من إنه إذا لم تتحسن الظروف السياسية، ربما تصير مصر فى النهاية عائقا سياسيا أكثر منها أحد الأصول الإستراتيجية. لا ينبغى أن يغفل مبارك ومستشاروه حقيقة أن قيمة البلاد وأهميتها مستمدة من قوة مجتمعها المفتوح والعلاقة بين الحكام والمحكومين. إذ يحترم القادة الغربيون الحكومات التى يؤمن مواطنوها بشرعيتها، ويزدرون السلطات غير الشرعية، حتى وإن كانت من حلفائهم. وبصرف النظر عن رأينا فى عبدالناصر والسادات، فقد كان للبلد دور قيادى قوى، وكان لاعبا أساسيا فى الشئون الإقليمية والدولية، يؤخذ بعين الاعتبار من قبل الأعداء والأصدقاء. والخطر الذى ينبغى على الرئيس مبارك الحذر منه هو أن يتقلص دور المحروسة الإقليمى إلى مجرد أداء وظائف ذات مفيدة للقوى العظمى الراعية لها. فتلك وصفة لمزيد من التهميش والانحدار.