نواصل مناقشتنا بعض الروشتات المقترحة لإصلاح جهاز الدولة وتحسين أدائه، وأبدينا فى المقالة السابقة مخاوفنا من تعميم مبدأ العقود المؤقتة، وقمنا بذكر مزايا العقود الدائمة، ونواصل الحديث، فنقول إن التوسع فى اللجوء إلى العقود المؤقتة حل لجأ إليه نظام مبارك فى عقده الأخير، وكان أحد أسباب هذا الخيار هو الرغبة فى تقوية نفوذ الرؤساء وإضعاف قدرات ورغبة كبار الموظفين فى مقاومة سياسات لا يقتنعون بها، أو فى الدفاع عن مصالح معينة، عامة أو خاصة. بالطبع لا ندعى أن البيروقراطية دائما على حق أو أنها دائما على خطأ، لكننا نقول إنها راكمت معارف ومعلومات لا تتوافر لدى غيرها، وأن إهمال خبراتها أو الحط من شأنها خيار معيب، أو على أقل تقدير خطر، ومن ناحية أخرى علينا الاعتراف بأن البيروقراطيات تقاوم الإصلاح أو على الأقل تحاول قولبته فى أطر تفهمها وتصون هيبتها، وقد يكون هذا أمرا جيدا، وقد يكون سيئا، على حسب الأحوال. والسبب الثانى لتفضيل مبدأ العقود المؤقتة هو إجبار الموظف على الإنجاز، وعلى إجادة عمله، إن أراد تجديد عقده، وأعتقد من ناحية أنه يمكن تحقيق هذا الغرض دون اللجوء إلى مثل هذا الحل، ومن ناحية أخرى أن خيار العقد المؤقت لا يحل كل المشكلات. من ناحية نستطيع أن نقترح سلة من السياسات، التى من شأنها رفع مستوى الأداء، تنظيم دورات تدريبية، تغيير معايير الترقية (مع التفكير فى حلول تحد من الآثار السلبية للمحسوبية)، خلق أجهزة وفرق مفتشين متخصصين، تقليل عدد ساعات العمل المطلوبة مع عدم التساهل مع من يتغيب.. إلخ. ومن ناحية أخرى، اللجوء إلى العقود المؤقتة لا يحل مشكلة الخوف من المبادرة، بل يعمقها، من المعروف على سبيل المثال أن الموظف الذى يواجه ظرفا مستجدا يلجأ إلى أحد الحلين، إما أن يقيس الحالة الجديدة على حالات أخرى عالجتها التعليمات التى أصدرت، وإما أن يطلب تعليمات جديدة، ويعطل المصالح إلى حين صدور الأوامر المطلوبة. خلاصة القول هى ضرورة إدراك حقيقة عدم وجود حل سحرى، ومعرفة مزايا العقود الدائمة، وتفادى الاعتماد المفرط على العقود المؤقتة لكثرة آثارها السلبية، مع عدم استبعادها إن كانت شرا لا بد منه. نود الآن مناقشة حلا ذاع صيته، وأوصت به الدوائر الليبرالية المحلية والعالمية، ولجأت إليه الحكومات المصرية منذ مطلع القرن الحالى، وهذا الحل هو عدم محاولة إصلاح المؤسسات الضخمة لاستحالته أو لارتفاع تكلفته، واللجوء إلى إنشاء مؤسسات بديلة، صغيرة الحجم، تحكم عملها لوائح وقواعد قانونية تضفى قدرا كبيرا من المرونة، وتضم عناصر منتقاة لكفاءتها، تقوم بمهام شبيهة بمهام المؤسسات الضخمة الميؤوس منها، وتقدم خدمات مقابل رسوم مرتفعة لا يقدر عليها الفقراء، وقد تكون المؤسسات الجديدة بعيدة عن المؤسسات المنعوتة بالفاشلة، وقد تكون جزءا صغيرا منها يعمل بكفاءة أكبر من فروعها الخادمة للجمهور وللعوام. هذا الحل ليس شرا كله، لأن وجود كيان منافس قد يدفع المؤسسة الضخمة إلى خوض معركة الإصلاح الجذرى، وإلى تحسين أدائها، ولأن وجود المؤسسات الجديدة قد يقدم خدمات لا يمكن الاستغناء عنها، وقد يشجع الاستثمار ويسهم فى تنشيط الأداء الاقتصادى، لكن هذا الحل مآخذه عديدة، فهو اعتداء صارخ على مبدأ المساواة بين المواطنين، ويكرس الظلم ووجود ما سماه ناصر مجتمع النصف فى المئة، ويخل بالمنافسة ويساعد الأقوياء على حساب الضعفاء، وأثبتت التجربة المصرية أن المؤسسات الصغيرة لا تنجح دائما فى التخلص من آفات البيروقراطية، فعلى سبيل المثال من المعروف أن العاملين بها يتقاضون مرتبات أعلى بكثير من المعتاد، وبالتالى يتم تعيين محاسيب وأولاد أصحاب نفوذ بصرف النظر عن كفاءتهم وقدراتهم، مما يؤثر سلبا على الأداء، وللحديث بقية..