أترك مؤقتًا حديثى عن القرارات السياسية الكبرى لأطرح أمام القارئ الكريم بعض الخواطر المتعلقة بأداء جهاز الدولة وآليات إصلاحه. بادئ ذى بدء أعترف أن تعاملاتى مع جهاز الدولة قليلة نادرة، وأننى لم أكن يومًا موظفًا فى أحد قطاعاته، وأعترف أننى لم أدرس جهاز الدولة دراسة علمية (إن استثنينا بعض المؤسسات)، ولكننى دائم الحديث مع أصدقاء وزملاء ومعارف يعملون به ويتعاملون معه ويهتمون بقضاياه. هناك إجماع على تقييم بالغ السلبية لأدائه وعلى نعته بأسوأ النعوت، إجماع على قدح الروتين الحاكم والمعطل، على نقد فساد موظفيه، وتغيبهم عن العمل وإهمالهم، والنقص المريع فى كفاءتهم، وأعدادهم الغفيرة المثقلة للميزانيات، والمحسوبية المؤثرة على القرارات والتعيينات والترقيات، والقائمة طويلة ومعروفة ولا أريد الإفاضة. وهناك إجماع على ضرورة الإصلاح وإعادة الهيكلة، وهناك أيضًا مقولة شائعة مفادها أن هذا الإصلاح من المستحيلات، نظرًا لتكلفته الاجتماعية والسياسية والمالية الباهظة، وهناك مَن اقترح أو لجأ إلى حلول ينبغى مناقشتها. أريد بداية أن أنبّه القارئ إلى بعض المحاذير الدافعة إلى توخّى الدقة، جهاز الدولة ليس كتلة واحدة، هناك أجهزة ناجحة وأخرى فاشلة، أداء الدولة فى القاهرة يختلف عن أدائها فى سائر القطر، الحديث عن التدهور يفترض ضمنًا أن الأداء كان أحسن فى الماضى، ولا أظن أن ذلك صحيح دائمًا، الموظفون القادرون على الإنجاز ليسوا استثناءً لا نقابله إلا نادرًا، وتجربتى مع إدارة السجل المدنى ومع وزارتَى الثقافة والكهرباء ومع شركات التأمين ومع مترو الأنفاق، وما أسمعه عن منظومة التموين الجديدة، أو عن أداء الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، كل هذا يدفعنى إلى القول إن الأداء تحسَّن، أو ما زال مرضيًا، وجدير بالذكر أننى تعاملت مع كل مستويات الهيكل الإدارى. أعلم أن الجميع يتحدَّث عن تدهور حاد ومخيف فى الخدمات الصحية وفى المؤسسات التعليمية (مع استِثناء بعض الكليات)، ولكن هذا الأداء السيئ ليس حكرًا على القطاعين العام والحكومى، وعلينا أن نعى أن المصريين معتادون على وجود الدولة وعلى التعامل معها، وأن الدولة قادرة على الإنجاز وعلى مواصلة تقديم خدمات رغم الصعوبات الهائلة فى أحوال غير قليلة. لا أنكر أن أداء الدولة بالغ السوء فى مجالات حيوية، لا سيما فى محافظات الصعيد، وأن تحسينه مطلب شعبى كاسح، ولكننى أخشى أن يستغل الفشل الذريع لخدمة مقولات ومناهج ومصالح لا يرجى منها خير. أريد مناقشة بعض الحلول المطروحة ولفت النظر إلى مخاطرها، ليس بالضرورة لرفضها واستبعاد اللجوء إليها، فقد تكون فى أحوال كثيرة أهون الشرَّين. أول هذه الحلول هو اللجوء الكثيف إلى العقود المؤقتة، ومنطق هذا الحل يفترض أن الموظف كسول بطبعه، يريد أن يتمتع بمزايا الوظيفة دون القيام بواجباتها، ويفترض أيضًا أن سهولة الإعفاء من المنصب ستقابله سهولة التعيين لمواجهة طوارئ أو حالات قد لا تدوم. ويستشهد أنصار هذا الحل بإحصائيات سخيفة تدَّعى أن الموظف لا يعمل إلا نصف ساعة يوميًّا، أو بمقولات فاشية عن ضرورة الكرباج فى التعامل مع المصريين.. إلخ. عيوب هذا الحل جلية واضحة، إذا كان العقد المؤقت غير قابل للتجديد، سنواجه المشكلة نفسها، لا يوجد حافز للإجادة، من يعمل بضمير سيجيد، والآخرون لن يعملوا وسينشغلون بالبحث عن عمل آخر، وإن كان العقد قابلًا للتجديد، فتحنا الباب أمام المحسوبيات والفساد (حتى لو نص القانون على معايير دقيقة للتقييم)، ودعمنا سلطة الرؤساء وهى أصلًا كبيرة وطاغية، وقوّينا فى المرؤوس الخوف من المبادرة ومن مصارحة رؤسائه. وأضعفنا انتماءه إلى المؤسسة الذى يشكّل فى أحوال كثيرة حافزًا إيجابيًّا. وهناك اعتبارات أخرى تصب فى نفس الاتجاه، اعتبارات استمرارية العمل (كل موظف جديد يحتاج إلى فترة لفهم وإتقان مهامه)، تقليل عائد التدريب (تدرب شخصًا ثم لا توظفه إلا لفترة محدودة)، مزايا العقود الدائمة، فهى تشكِّل حماية يحتاجها الموظف العام، وللحديث بقية.