تعتقد نخب النظام الناصرى أن الولاياتالمتحدة نصبت فخا لعبد الناصر، واستدرجته إلى مواجهة مع إسرائيل التى أُطلِق عنانها، وأن واشنطن سعت للقضاء على الزعامة الناصرية منذ رفضها مشروعات أيزنهاور، لهزيمة القومية العربية هزيمة ساحقة ولمعاقبة ناصر على إهانته كبرياء الدول الغربية الكبرى ولحماية حلفائها من الأنظمة العربية المحافظة ولإرسال رسالة إلى كل العالم الثالث. هذا الاعتقاد راسخ وعميق ولا يمكن إرجاعه إلى تكتيك خطابى للبحث عن ذرائع مبررة للهزيمة، وقدم محمد حسنين هيكل أكمل نسخة لتلك السردية فى ثلاثيته العظيمة عن حرب الثلاثين سنة. وأعترف أننى رفضت تلك الرواية منذ اللحظة الأولى لأسباب ذاتية، وهى تمسكى بمشروع الاستقلال الوطنى والقضاء على الفقر، إذا كانت 1967 النهاية الحتمية لأى مشروع تحررى حقيقى، فالأجدر بنا أن نقبل التبعية، التبعية لدول لها تاريخ طويل من التلاعب بمقادير المنطقة، النوايا كانت تارة حسنة وتارة سيئة، لكن الحصاد واحد. وخصصت أشهرا طويلة لدراسة النكسة، شأنى شأن كل من عاصرها، وكل من أحب عبد الناصر الرمز والقيادة. رواية مؤامرة اصطياد الديك الرومى تستحق دراسة متأنية، لأن كل أقطاب الناصرية وصفها الثانى آمنوا بها أشد الإيمان، فهى تقدم تفسيرا منطقيا لواقعهم ولتجربتهم الشخصية، ولأن الأمريكيين يرفضونها جملة وتفصيلا. نقول أولا إن الأمريكيين لا يفهمون أن سلوكهم الدبلوماسى يتسم بالعدوانية وبالشراسة فى الدفاع عن مصالحهم، وبالإسراف فى تلقين الدروس فى الأخلاق والسياسة، وواضح جدا أن فصائل كثيرة من فريق إدارة جونسون كانت تعادى ناصر وتكرهه وتوصى دائما بتربيته وبضربه فى مقتل، وواضح جدا أن الإدارة كانت ترى فيه خطرا على مصالحها ومصالح لندن والرياض وتل أبيب، وأنها كانت تقف له بالمرصاد، وتكثر من الاحتكاك العدوانى به، وكان ناصر يبادلهم الشعور والممارسات، ومن ناحية أخرى، لم يلتفت رجال ناصر إلى التأثير البالغ السلبية لخطاب إذاعة صوت العرب على الرأى العام الغربى، وعلى قياداتهم، لا أقول إن هذا الخطاب غير مشروع أو غير فعال، أقول فقط إن القيادات الناصرية أدركت إيجابياته الكثيرة، ولم تدخل فى حساباتها سلبياته، لكن التوتر والكراهية والصدام اليومى والتربص بالآخر شىء، ووجود قرار بإسقاط ناصر وسياسة مدروسة ترمى إلى ذلك شىء آخر، والكم الهائل من القرائن التى جمعها أستاذنا الكبير هيكل غير مقنع وغير حاسم، لأن دراسة الوثائق ككل من شأنها رسم صورة مختلفة، لا أقول إن السياسة الأمريكية كانت أخلاقية أو لا أخلاقية، أقول فقط إن إسقاط ناصر لم يكن هدفا سياسيا، لأن مثل هذا المشروع لم يكن واقعيا، نظرا لشعبيته الهائلة، ولكون سلوكه أكثر عقلانية من سلوك التقدميين العرب، ولم يكن ضروريا، لأن الجيش المصرى كان يعانى بشدة فى اليمن. نعم، واشنطن كانت تسعى لإضعاف ناصر، لكنها لم تنصب له فخا قبل اندلاع الأزمة يوم 14 مايو، وفوجئت جدا بالتصعيد، لأن تقديرها للموقف كان يتوقع هدوء الجبهة المصرية الإسرائيلية نظرا لانشغال الجيش المصرى فى اليمن، صحيح أن سفيرها فى القاهرة كان قد حذر من احتمال قيام ناصر بما وصفه بمغامرة خارجية لصرف نظر الشعب عن الصعوبات الاقتصادية المتفاقمة، لكن لم يتوقع أحد دخول ناصر فى مواجهة مع إسرائيل، وتساءل أحد كبار المسؤولين الأمريكيين: هل جن ناصر؟ وسعت واشنطن فى بداية الأزمة لاحتوائها وإلى التهدئة، مع تفادى تقديم تنازلات لناصر لمنعه من إحراز انتصارات دبلوماسية، لكن الأطراف الإقليمية أصرت كلها على التصعيد، وإزاء ذلك قررت الولاياتالمتحدة الانحياز إلى إسرائيل، وأعطت لها ضوءا برتقاليا كما قال وليم كواندت لشن الهجوم، وهناك أسباب قوية للاعتقاد بأن الرئيس جونسون قرر خلال الأسبوع السابق لاندلاع الحرب التواطؤ مع تل أبيب والمشاركة فى عملية خداع لناصر، لكن هذا التواطؤ لا يفسر اندلاع الأزمة، وللحديث بقية.