كان لقرار إرسال قوات إلى اليمن له ما يبرره، فالقرار استراتيجى صائب، ويتسق مع طبيعة الزعامة الناصرية وآليات نظامه السياسى، وكانت تكلفة البديل (التخلى عن الثوار اليمنيين) باهظة جدا، لأن انهيار هيبة ناصر العالمية ونفوذه وتأثيره على حركات التحرر يفقده قدراته على جلب مساعدات اقتصادية وعسكرية دون مقابل كبير، ويؤثر بالسلب على شرعيته المعتمدة أساسا على قدراته على تحقيق نتائج لا تعكس موازين القوى السياسية والعسكرية. إلا أن هذا القرار كان مكلفا للغاية، اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا، لأنه أدخل مصر فى مواجهة صريحة مع السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة، فانهيار العلاقات مع واشنطن لا يُفَسر فقط بطبيعة شخصية الرئيس جونسون وبحياته العاطفية وبتحالفاته الداخلية، اليمن فى تقديرى هو العامل الرئيسى الذى دفع أعداء ناصر إلى تنسيق جهودهم، وكثرت فى واشنطن وفى دهاليز النظام السياسى الأمريكى أعداد من ينادون «بتربية» الزعيم المصرى أو اصطياده، إلا أن جونسون لم يتخذ أى قرار فى هذا الشأن قبل اندلاع أزمة مايو 67. قلت إن مصر كانت قادرة على إدارة المواجهة وتحمل نفقاتها، بشرط تفادى أى تسخين للجبهة المصرية الإسرائيلية، وكان الرئيس المصرى وأغلب أعوانه يدركون إلى حد ما تلك الحقيقة. والذى حدث أن الأنظمة العربية الأخرى، لا سيما النظام السورى وبعض المجموعات الفلسطينية، قررت استغلال انشغال ناصر فى اليمن وتأجيله للمواجهة مع إسرائيل، لتحقيق مكاسب، غالية أو رخيصة، ولنقض أركان زعامته. كان هذا السلوك مفهوما ومتوقعا من قبل العروش المهددة من قبل المد الثورى العروبى، ودأب إعلامها على معايرة ناصر بهدوء الجبهة المصرية الإسرائيلية، و«بتستره الجبان خلف قوات حفظ السلام الدولية»، وكان تأثير هذا الخطاب شديدا على نفسية ناصر وأعوانه. ما لم يكن متوقعا هو سلوك المعسكر التقدمى العربى، الذى توهم أنه يستطيع انتزاع الزعامة من ناصر، وأن الفرصة سانحة أمامه «لكشف زيف الخطاب الناصرى وتقاعس مصر عن مواجهة إسرائيل»، وقررت كل من سوريا وبعض الفصائل الفلسطينية الدخول فى مواجهات عسكرية صغيرة أو كبيرة مع إسرائيل، والإكثار من عمليات القوات الخاصة، دون مراعاة حقائق موازين القوة، وقدرة إسرائيل العسكرية على التصعيد الحاد، ومصلحتها فى ذلك، وتعاطف الرأى العام الغربى معها، لنجاح دعايتها فى رسم صورة تخالف الواقع تماما، مستغلة فى ذلك خطابات الحشد العربى وعقد الذنب الأوروبية، أفهم طبعا الرغبة الفلسطينية العارمة فى استرداد الحقوق المسلوبة وفى إجبار مصر على مواجهة إسرائيل، والخوف الفلسطينى من طى صفحات الماضى وضياع القضية بمرور الزمن، وأعلم أن النظام السورى كان يواجه مأزقا شديدا دفعه إلى تبنى هذا الخيار المعيب والمحفوف بالمخاطر. حاول ناصر كثيرا حث المعسكر التقدمى على التروى، وسعى لطمأنته بالتأكيد المتكرر على التزام مصر بالتصدى لأى عدوان، ولكن جهوده لم تفلح فى إقناعه بمخاطر خياراته، ولم تثنه الضربات الإسرائيلية عن المضى فى هذا الدرب، وفى مطلع مايو 1967 اتضحت الصورة، وكثرت المؤشرات والتصريحات الدالة على اتجاه إسرائيل إلى اتخاذ قرار بسحق النظام السورى والمقاومة الفلسطينية، وهدد رئيس الأركان الإسرائيلى إسحاق رابين بغزو دمشق، وتواتر الحديث عن حشود إسرائيلية على حدود سوريا، وواجه جمال عبد الناصر مأزقا شديدا، فمصر لا تستطيع تحمل الثمن العسكرى والاستراتيجى والسياسى لانهيار سوريا، ولن تستطيع الدفاع عن خيارها اليمنى أمام جماهير الأمة العربية، إن سقطت دمشق دون أى نشاط يذكر على الجبهة المصرية، وقرر ناصر التصعيد، لردع إسرائيل ولمنعها من مواصلة مسلسل الاعتداءات، ولتفادى سيناريو انهيار سوريا واضطرار مصر إلى مواجهة إسرائيل لوحدها، ومن الواضح أن القرار اتخذ بسرعة فائقة، وأن دوافعه منطقية ومفهومة. المشكلة إذن ليست فى التصعيد، المشكلة فى اختيار آليات التصعيد وفى الإدارة اللاحقة للمواجهة، وللحديث بقية.