لم يكن الاحتفال الذى أقامه الاتحاد النسائى المصرى بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيلها، ونشرت عنه مجلة «المصور» تغطية مصورة فى 12 ديسمبر 1941، إلا محاولة لردّ الاعتبار لهذه الأديبة العظيمة، التى جاءت إلى مصر فى بدايات القرن العشرين، وتعلمت اللغة العربية، وأتقنتها، وأصبحت إحدى عبقرياتها الفريدة، وأحدثت نهضة ثقافية استثنائية وعارمة فى الأدب العربى. كانت بداياتها مشرقة ومفعمة بالإبداع والإنتاج الأدبى، جعلت جهابذة الثقافة والفكر والأدب والسياسة والمجتمع، يهرولون حولها، وكان العقاد الجبار، ومصطفى صادق الرافعى البليغ، ومصطفى عبد الرازق العالم والفقيه، وولى الدين يكن الشاعر الأرستقراطى، وخليل مطران شاعر القطرين، وأنطون الجميل الصحفى الكبير، ولطفى السيد الأستاذ الليبرالى، وطه حسين المتمرد، وإسماعيل صبرى الشاعر العاشق، يسعون إليها لحضور صالونها الأدبى المهيب، الذى كانت تقيمه كل يوم ثلاثاء، وفيه كتب كثيرون شعرا ونثرا، وقد كتب إسماعيل صبرى قصيدة كان مطلعها: (روحى على دور بعض الحى حائمة كظامئ الطير توّاقا إلى الماء إن لم أمتع بمىّ ناظرى غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء). وهناك من هؤلاء من فتنته مىّ، وتدله بها، وكتب فيها الشعر والنثر والرسائل، ولم تكن رسائل مصطفى صادق الرافعى الرائعة إلا لها وبإيحاء منها، وكانت هناك الرسائل المتبادلة بينها وبين كثيرين، مثل أحمد لطفى السيد، وطه حسين، وأنطون الجميل، وجبران خليل جبران، وكان كل هؤلاء قد أفرطوا فى حبّها، ولكنها كانت محافظة إلى حدّ بعيد، وأعتقد أن إخلاصها للمعشوق البعيد، كان نوعًا من الهروب من العاشق القريب، وأقصد المعشوق البعيد وهو شاعر المهجر جبران خليل جبران، واتفق معظم كاتبى سيرة مى، على أنها لم تحب سوى جبران، ومن الممكن من الناحية الشكلية إقرار ذلك، ولكن من الناحية الحقيقية، فربما كان التزاحم الذى حدث حولها من شخصيات لها حضور مهيب فى كل مناحى الحياة، تلجأ إلى جبران كنوع من الحيلة الأنثوية، لصدّ كل هؤلاء الرجال عنها. وهناك حكايات كثيرة بين مى ومعظم الشخصيات التى كانت تحضر إلى صالونها، وأود التنويه بحكايتها مع عباس محمود العقاد، الذى كان يحبها بجنون، وله معها مواقف كثيرة، وذكرها فى كثير من أدبياته، خصوصا فى روايته الوحيدة سارة ، وفى عدد من قصائده، وكان يسميّها ب هند ، ولم يكن العقاد هو الذى أطلق مشاعره نحوها دون أن تبادله ذلك، بل إنها بادلته هذه المشاعر بمشاعر مثلها، ولكن فى تحفظ شديد، وأقصى ما ناله العقاد منها قبلة على جبينه، أو قبلة على جبينها، حيث، وقد كانت مى ضنينة بقبلاتها على كل من أحبوها، كما يذكر أحد أصدقاء العقاد القريبين لكامل الشناوى. وكان صديق العقاد هذا، والذى لم يفصح الشناوى عن اسمه، قد رآه مرة يسير مع مى فى الشارع، فتعقبهما حتى رآهما يدخلان إلى إحدى الكنائس، وعندما سأل صديقه: أين كنت أمس؟ أجاب العقاد بأنه كان فى الخارج، دون ذكر أى مكان فى الخارج، وعندما فاجأه صديقه بأنه رآه مع مى، ورآهما يدخلان الكنيسة، واعتقد هذا الصديق بأنهما ذهبا لعقد القران!! فتعجب العقاد من ذلك، وأفصح لصديقه بأنه كان قد عرض على مى أن يذهبا إلى السينما، ووافقت بالفعل، ولكنها قالت له إنها تفضل السينما التى فى الكنيسة، وعندما سأله صديقه: هل توجد فى الكنيسة سينما؟ أقرّ العقاد بأن بعض الكنائس خصص جزءًا لعرض بعض الأفلام المحافظة أو الدينية، بعد أن انتشرت السينما فى مصر، ففعلت ذلك لحماية أخلاق الناس. هذه شذرات من حكايات غراميات الناس بمى، وغرامها بهم، ولكنها فى ظل كل ذلك، كانت مى تبدع بغزارة نثرًا من أرقى أشكال النثر فى ذلك الزمان، ونقدا أدبيا ما زال حتى الآن حافلًا بالرؤية الصائبة، والنظر العميق، فكتاباتها النقدية عن عائشة التيمورية وملك حفنى ناصف باحثة البادية ، ووردة اليازجى، وأشعارها التى كتبتها بالفرنسية، ومقالاتها الأدبية رفيعة المستوى، كل هذا له عمق فى المعنى، وجمال فى الأسلوب. ول مى تجربة فى الصحافة النسائية، ولم أقرأ لأحد من الذين تابعوا مسيرتها فى كل ما كتبوا، أنهم عرّجوا على تجربتها الصحفية فى صحيفة السياسة الأسبوعية ، عندما دعاها الدكتور محمد حسين هيكل رئيس التحرير، لتترأس القسم النسائى، وفى هذه الصحيفة أبدعت مى إبداعا فريدا، وكتبت فى الدفاع عن قضية المرأة وحريتها وحقوقها السياسية والاجتماعية كتابة استثنائية، وغابت هذه الكتابة عن الأجيال التالية، وهذا لسببين، أولهما طغيان حضور هدى هانم شعراوى -التى أقامت لها التأبين- والانشغال بها، وبهذا فانشغل الناس عن كل ما لا يخص شعراوى، وهكذا احتكرت شعراوى القضية النسائية، واختصر المتابعون والنقاد الحركة النسائية فى حركة هدى هانم شعراوى فقط، أما السبب الثانى فهو انشغال المتابعين والكاتبين بالمأساة التى تعرضت لها مى فى ما بعد، وكاد المتابعون أن ينسوا كل ما كتبته مى، بعد الزعم الذى زعمه كثيرون بأنها قد أصيبت بالجنون مثلما ذكر سلامة موسى فى كتابه تربية سلامة موسى ، ومثلما ورد فى رسائل صديقها أمين الريحانى. وقصة جنونها المزعومة هذه قصة طويلة، تبدأ عندما خدعها أهلها، ودبّروا خطة لعودتها إلى لبنان، وهناك أشاعوا قصة هذا الجنون، وأدخلوها بالفعل إلى العصفورية ، أى مستشفى المجانين، وكان كل هذا للاستيلاء على ميراثها، وعندما ثبت بإقرار الأطباء، نجحت مى فى العودة إلى مصر، ولكنها لم تعد مثلما كانت، فقد اعتزلت الناس، وبدا عليها نحول شديد، وهاجمتها الأمراض العضوية، ولم تعد تهتم بمظهرها الخارجى مثلما كتب كثيرون، وفى النهاية كان الموت المبكّر، بعد أن اغتالها الأهل، وتنكر لها المحبون والأصدقاء، ففارقها الأمان، وفقدت الثقة فى الآخرين، وحدثت هذه المأساة المريعة. قصة حياة مى الأديبة العظيمة، قصة عربية درامية بامتياز، وقد جسدها البعض فى كتابات درامية، أشهر هذه الكتابات مسرحية تسجيلية لألفريد فرج، ولكننى لم أشهد مسلسلًا تليفزيونيا مثلما حدث مع ليلى مراد أو أسمهان أو طه حسين أو أم كلثوم وغيرهم، وما زلت أنتظر هذا المجهود الذى يعمل على إعادة الاعتبار لها بشكل أكثر انتشارًا.