«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواد التنوير
مي زيادة
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 03 - 2014

أطلقت على ميّْ زيادة صفة النبوغ فى كثرة من الكتب والكتابات، التى صدرت بعد وفاتها. لكن هذه الصفة كانت قد أطلقت عليها وهى فى أوج عطائها، وفى أوج مجدها.
وكان أول من أطلق عليها هذه الصفة عميد الأدب العربى طه حسين، وشاركه فى ذلك آخرون من كبار الأدباء العرب ممن عرفوها، وقرأوا لها، واستمعوا إلى محاضراتها، وشاركوا فى المنتدى الأدبى الذى أنشأته. وكان ذلك المنتدى هو الذى هيّأ لميّْ أن تلتقى بالعديد من الأدباء، وأن تقيم علاقة صداقة تعددت مستوياتها، وصولاً ببعضها إلى حدود الحب المتبادل. وجدير بالذكر أن ميّْ تبادلت الرسائل مع عدد كبير من أدباء عصرها فى مصر ولبنان، وفى المغتربات الأمريكية. أذكر من هؤلاء الكبار جبران خليل جبران وأمين الريحانى فى المغتربات. أما أدباء مصر وشعراؤها وكبار مفكريها فأذكر منهم عباس محمود العقاد ولطفى السيد ويعقوب صروف وأنطون الجميل ومصطفى صادق الرافعي. لكن الرسائل المتبادلة بين ميّْ وجبران خليل جبران هى الأكثر إثارة للاهتمام، والأكثر إثارة للبحث عن مدى العلاقة التى ربطت بين هذين القطبين الكبيرين من المثقفين العرب فى النصف الأول من القرن العشرين. وهى علاقة لم تقترن بأى لقاء بينهما. إلا أن بعض الكتابات عن سيرة ميّْ تشير إلى أن علاقة خاصة كانت قائمة بينها وبين العقاد، من دون تفاصيل تحدد طبيعة تلك العلاقة. ولم أعثر فى المراجع التى توفرت لديَّ عن ميّْ على معلومات محددة حول طبيعة علاقاتها مع العديد من أدباء عصرها، لا سيما الذين تبادلت معهم الرسائل. لكننى لا أستطيع إلا أن أتوقف بكثير من الحيرة أمام تلك الرسائل الكثيرة العدد على امتداد ما يزيد على خمسة عشر عاماً بينها وبين جبران خليل جبران. والملفت فى هذه الرسائل عمق العلاقة، وعمق الصداقة، وكثرة المواضيع الأدبية والإنسانية التى تطرّق إليها كل منهما. والأكثر إثارة للدهشة والحيرة هو ما جاء فى رسائل جبران، التى سأقدم فيما بعد نماذج منها للتدليل على ما أقول.
يخرج المرء من قراءة سيرة مىّْ باندهاش من الاهتمام الكبير الذى لقيته فى مصر على امتداد حياتها. ولا يعود ذلك الاهتمام إلى إبداعها الأدبى وحسب، بل إلى كونها تميزت بالشجاعة فى الاعراب عن مواقفها بحرية. ساعدها فى ذلك كونها مسيحية لبنانية. وتفوقت بجرأتها وبرفضها للتقاليد السائدة على زميلاتها المصريات من أمثال الرائدة "باحثة البادية" (ملك حفنى ناصف)، باستثناء ما كانت قد قامت به هدى شعراوى رائدة حركة نهضة المرأة فى مصر وفى العالم العربى فى العقد الثانى من القرن العشرين ومعها صديقتها سيزا نبراوي. وقادت مىّْ مواقفها وكتاباتها ومجمل نشاطها إلى أن تصبح موضع الاهتمام المشار إليه. وتؤكد رسائل جبران إلى مىّْ أنها كانت تستحق ذلك الاهتمام بها كامرأة نهضوية وكأديبة مميزة واسعة الثقافة. فهى كانت مبدعة فى أدبها، وفى نقدها الأدبى والإجتماعي. وكانت، فى الوقت عينه، رائدة كبيرة فى تحقيق نهضة المرأة وفى تحريرها من القيود والتقاليد التى كبّلتها على امتداد قرون.
كانت كتاباتها تتناول شتى المواضيع الأدبية والاجتماعية وحتى الفكرية والسياسية فى بعض الأحيان. ويدخل فى باب الفكر السياسى مقالها الشهير حول الاشتراكية الذى أقتطف منه ما يشير إلى دقة متابعتها لحركة الفكر فى العالم العربى وفى العالم. تقول ميّْ فى مقال بعنوان "الاشتراكية السلمية"، نشرته فى جريدة "الأهرام": "الاشتراكية السلمية كالثوروية ترمى إلى تغيير النظام القائم ولكن بوسائل غير حادة، بل بإدخال أعضائها فى الهيئات النيابية والإدارية والقضائية، يعدلون ما أمكن تعديله. ثم يكثر عددهم مع الزمن حتى تصبح يوماً أعنة الشئون فى أيديهم. فيسنون نظامهم وينفذونه دون استباحة أرواح وسفك دماء. ولقد ولدت الروح الاشتراكية الجديدة مع الديمقراطية الجمهورية فى الثورة الفرنساوية التى استفزت فى آن واحد الحماسة الوطنية وحماسة توحيد جميع الأوطان. وظلت تلك الروح نامية فى فرنسا وسويسرا وانجلترا وألمانيا حتى خطا بها لوى بلان (Louis Blanc) صديق فكتور هيغو، خطوة واسعة سنة 1839. إذ أعلن أن غايتها هى حماية العامل من جور صاحب العمل وجعل هذا قادراً على الإنتاج مستقلاً فى ما سماه المعمل الاجتماعي... ويصح أن يذكر فى سياق الكلام على الإشتراكية السلمية "الحزب الاشتراكى المصرى" الذى أعلن بروجرامه فى شهر أغسطس المنصرم (1921)".
تقدير
لا بد، إذن، من الإقرار لهذه الأدبية بما تستحقه من تقدير منحها إياه أدباء عصرها، وكرره وفاء لها كثرة من الأدباء المعاصرين وفى مقدمتهم الأديبة السورية سلمى الحفار الكزبرى والأديب اللبنانى جميل جبر. واستحضار سيرتها منذ نشأتها حتى وفاتها سيكون شاهداً على ما قاله بشأنها الأدباء فى حياتها وبعد وفاتها. وهى سيرة تعدد رواتها، من دون أن يختلفوا فى الأساسيات فيها. وسأعتمد على أربع روايات، الأولى للأديبة سلمى الحفار الكزبرى والثانية لجميل جبر والثالثة لسميحة كريّم والرابعة لأحمد أصفهاني، وهى الرواية التى يستحضر فيها المؤلف سيرة ميّْ الصحافية.
ولدت ميّْ (ماري) زيادة فى مدينة الناصرة فى فلسطين فى عام 1886. والدها هو الياس زخور زيادة من أبناء منطقة كسروان فى جبل لبنان. مارس التعليم فى مدينة الناصرة، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة لممارسة العمل الصحفى فيها. أما والدة ميّْ فهى نزهة معمر، فلسطينية الأصل، كانت معروفة باهتمامها بالشعر العربي.
بدأت ميّْ دراستها فى مدرسة الراهبات فى الناصرة. ثم انتقلت من تلك المدرسة وهى فى سن الرابعة عشرة من عمرها إلى مدرسة راهبات الزيارة فى بلدة عينطورة فى منطقة كسروان فى جبل لبنان فى القسم الداخلى بعيداً عن أهلها قبل أن ينتقلوا إلى مصر. وتميزت، وهى طالبة، بحسها الموسيقى وبميلها إلى الغناء والشعر والتمثيل. لكن كآبة رافقتها وهى فى السادسة من عمرها عندما توفى شقيقها، وكان لا يزال فى الثانية من عمره. وبدأت تناقضات شخصيتها تبرز فى سلوكها وهى طالبة. إذ جمعت بين الكآبة ورهافة الحس وسرعة الانفعال، وبين حدة الذكاء وأنس المعشر والطموح إلى الأرقي. وتعترف ميّْ فى يومياتها أنها كانت تشعر، خلال وجودها فى مدرسة عينطورة، بالوحشة فى أيام الأعياد، وحيدة بعيدة عن أهلها، برفقة الكتب والروايات والقصص والبيانو. تقول فى هذه اليوميات:"ما كدت أمس أصابع العاج حتى سحبت يدي!. ما أشد البرد فى البيانو، بل البرد فى يديّ وفى روحي، البرد فى وحدتى وفى غربتي. إنى جليد. لكننى جليد يتعذب. وأشعر بأن كل ما فى هذا الدير جليد حي، ينبض يتعذب ويبكي".
ولأنها كانت قد بدأت تتقن اللغة الفرنسية فقد تعرفت إلى رموز الأدب الرومانسي، لا مارتين الفرنسى وبيرون الإنكليزي، فقد حاولت فى يومياتها فى عينطورة أن تقلدهم. وتعبّر فى يومياتها عن مشاعرها إزاء التغيرات التى كانت تأتى بها فصول السنة، معربة عن كرهها للشتاء وعن حبها للشمس. تقول فى اليوميات:"الشمس لم تشرق اليوم. إنها تختفى وراء الغيوم وتتلفع بدثار من الأسرار. الجو رمادى الأديم والأفق متشابه الألوان فى جميع جهاته، والأرض مغتمة حسري، والمطر على وشك الانهمار. هذا الطقس يلقى على نفسى غشاء من الاكتئاب والتخدر. عندما يكون الجو رمادياً كذلك يكون وجدانيا. إنى أؤثر الشمس بازغة تبهج العالم. والسماء أؤثرها صافية فهى أفضل عندى من أن أرى الرياحين منكسة الرءوس والورود ذابلة الكئوس تحت دفق المطر".
إلى القاهرة
فى عام 1907 انتقلت عائلة ميّْ من الناصرة إلى القاهرة. وكان على ميّْ أن تترك لبنان وجباله وشطآنه، بعد أن كانت قد ألفت العيش فى ربوعه وأحبته، وصار جزءاً مكوناً من حياتها. فكتبت، وهى تودع لبنان، كلمات مؤثرة جاء فيها:"يصعب عليّ أن أبتعد عن مكان قضيت فيه أياماً أو بعض ساعات فكيف لو قضيت فيه سنوات. ذلك لأنى أترك فيه فلذات من صميمي، بعضاً من ذاتى أحن إليه... لبنان وطنى والناصرة مسقط رأسي، أما مصر فمغامرة فى المجهول".
باكورة أعمال ميّْ الأدبية ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير الحلم" لم توقعه باسمها. بل اختارت لنفسها اسماً غربياً هو Isis Copi.. وإيزيس هى آلهة مصرية ترمز إلى العذراء مريم. أما كوبى فهى الترجمة اللاتينية لكلمة زيادة. لكنها عندما بدأت تكتب بالعربية اختارت اسماً عربياً مكوناً من الحرف الأول من إسمها وحرفاً من اسم عائلتها، هو "مي". وبهذا الإسم اشتهرت كأديبة، وكشاعرة، وككاتبة صحفية، وكشخصية اجتماعية، وكصاحبة منتدى أدبي. وكانت كتاباتها الأولى فى مجلة "المحروسة" التى كان والدها يدير تحريرها، ثم أصبحت هى بعد وفاة والدها المسئولة عن تحريرها. كما كانت تكتب فى مجلات وصحف أخرى من بينها مجلة "المقتطف" لمؤسسها يعقوب صروف، الذى نشأت بينها وبينه علاقة صداقة، وجريدة "الأهرام" التى كان يدير تحريرها أنطون الجميل، الذى صار أيضاً من أصدقائها.
فى عام 1911 زارت ميّْ بلدها لبنان الذى تعشقه لقضاء عطلة الصيف فى ربوعه. واختارت بلدة ظهور الشوير الجبلية مكاناً لإقامتها. وبنت كوخاً أخضر ليكون البيت الذى تمارس فيه عزلتها مع الطبيعة. وكانت قد سبقتها إلى لبنان شهرتها كأديبة معروفة. وكانت فى تلك الفترة من حياتها الأدبية قد اطلعت على كتابات جبران خليل جبران واستهواها أسلوبه. كما أطلعت على كتابات أمين الريحانى وأعجبت بها. وكان الريحانى قد زارها فى كوخها ودعاها مع أبويها لزيارته فى صومعته فى بلدة الفريكة.
فى عام 1913 قررت الجامعة المصرية إحياء حفلة تكريم لشاعر القطرين خليل مطران. وطلب من جبران خليل جبران المشاركة فى التكريم. فأرسل كلمة كلف ميّْ بأن تقرأها بالنيابة عنه لتعذر حضوره شخصياً. وشكل وقوف ميّْ خطيبة فى مهرجان التكريم ذاك حدثاً بالنسبة لأدباء عصرها. إذ كانت أول امرأة تقف على منبر فى حفل أدبى كبير من ذلك النوع برفقة عدد من كبار الأدباء. ثم أنشأت ميّْ بعد ذلك منتدياً أدبياً كانت تستقبل فيه كبار الأدباء من مصر ومن سائر البلدان العربية يتباحثون فى شؤون الفكر والأدب والثقافة والمجتمع، ويتبادلون الآراء فى نتاجهم فى شتى ميادين الأدب والمعرفة. وكان من رواد ذلك المنتدى ولى الدين يكن وطه حسين وأنطون الجميل ولطفى السيد ومصطفى عبد الرازق وخليل مطران وعباس محمود العقاد ومنصور فهمى وشبلى الشميل ومصطفى صادق الرافعى ويعقوب صروف. كما كان من بين أولئك الرواد مستشرقون.
نكبات
فى مطالع عام 1930 أصيبت ميّْ بعدة نكبات الواحدة منها تلو الأخري. إذ مات صديقها يعقوب صروف. ثم مات صديقها الأكبر جبران خليل جبران. ومات فى الوقت ذاته أبواها. فأحست بالاختناق. وازدادت إحساساً بالوحدة وبالعزلة. فلجأت إلى منزلها لا تغادره. ولم تعد تلتقى إلا بمن كانوا يزورونها فى منزلها. وكان من بينهم طه حسين. وكان كلما زارها يلح عليها بالخروج من منزلها للتنزه. وذات يوم قبلت دعوته واشترطت عليه أن يرافقها إلى الأهرام وإلى نصب أبى الهول. واستجاب طه حسين لطلبها.
عندما اشتدت على ميّْ السويداء طلبت من نسيبها الدكتور جوزيف زيادة أن يأتى إليها فى القاهرة ليصطحبها معه إلى لبنان. وفور وصولها إلى لبنان طبّق عليها أنسباؤها الحجر. وظلت فترة من الزمن حبيسة فى منزل نسيبها جوزيف زيادة. ثم نقلت من دون إرادتها إلى مستشفى "العصفورية" المعروف فى لبنان، المخصص للأمراض العقلية. وإذ أدركت أنها نقلت إلى ذلك المكان ثار ثائرها. ولم تستطع الخروج منه إلا بعد حملة قام بها بعض المثقفين وفى مقدمتهم أمين الريحاني، وإثر حملة إعلامية واسعة. ولدى خروجها من المستشفى أقامت بالقرب من الجامعة الأمريكية فى عزلة تامة. ولم تستقبل فى منزلها إلا بعض من كانوا أوفياء لها. وبعد فترة من الزمن دعاها أمين الريحانى إلى منزله فى بلدة الفريكة. لكنها لم تبق طويلاً هناك. إذ انتقلت إلى منزل قريب من منزل الريحاني. وكانت قد دونت انطباعاتها عن وجودها فى مستشفى الأمراض العقلية بعنوان "ليالى العصفورية".
فى عام 1938 دعيت إلى إلقاء محاضرة فى الجامعة الأمريكية بعنوان "رسالة الأديب إلى الحياة العربية". فأذهلت الحضور، وأعادت تلك المحاضرة إليها مجدها بعد أفول لم يدم طويلاً.
عادت ميّْ إلى القاهرة من رحلة العذاب التى قضتها فى لبنان. لكنها حملت معها إلى القاهرة عذاباتها وأحزانها. فاختارت منزلاً متواضعاً ركنت إليه. ولم تستقبل فيه إلا القليلين من أصدقائها.
وجيع،
لم تعش ميّْ طويلاً بعد تلك المأساة التى واجهتها. وكانت تدرك، وهى منعزلة فى منزلها ذاك، أنها تقترب من نهايتها. فكتبت ترثى نفسها:"وجيع، وجيع مشهد دموع اليأس فى المرأة الصعبة الباردة". وغادرت الحياة فى عام 1941، وبالقرب من سريرها أربعة كتب هى "غرازييلا" و"دليل حلمى التائه" و" صورة دوربان غراي" وكتابها الذى كانت قد أصدرته عن صديقتها الأديبة المصرية "باحثة البادية".
سيرة ميّْ المضطربة هذه تشير إلى شخصية امرأة من نوع مختلف. لم تكن ميّْ امرأة متحررة وحسب، ولم تكن أديبة وشاعرة وناقدة أدبية وحسب. كانت شخصية متعددة الأطوار ومتعددة المواهب الأدبية والإجتماعية. وكانت تحمل فى تمردها وفى تعدد شخصيتها أحلام المرأة الطامحة إلى التحرر، وأحلام الإنسان العربى الطامح إلى الحرية والتقدم. وهى سمات يستطيع المرء أن يقرأها من دون جهد فى كتاباتها التى تعددت منابرها الإعلامية والثقافية. وهى سمات تظهر بوضوح فى رسائلها إلى أصدقائها من الأدباء والمفكرين، سواء منهم أولئك الذين كانوا من أبناء جيلها، أم الذين كانت تعتبرهم أساتذتها الذين كانوا من أبناء جيلها وهم جبران خليل جبران وأمين الريحانى وعباس محمود العقاد وآخرون، أما الذين خاطبتها كأساتذين لهما فهما لطفى السيد ويعقوب صروف. والغريب فيما كتب عن ميّْ أن كل الذين كتبوا أبحاثاً وأنشأوا كتباً عنها كانوا يكتفون بالتركيز على جانب معين من سماتها ومن نشاطها ويعتبرون ذلك الجانب الأهم فى شخصيتها. فهى كانت شاعرة أساساً بالنسبة إلى البعض. وكانت أديبة بالنسبة إلى بعض آخر. وكانت صحافية بالنسبة إلى بعض ثالث. لكنها كانت، بالنسبة إلى جميع هؤلاء، امرأة متحررة مقدامة وذكية. وكانت تتميز، فى الوقت عينه، بحس فنى رفيع. كانت تعشق الموسيقي. وكان لها رأى فى الموسيقى كفن رفيع. وكانت تعزف على البيانو وعلى العود. لكنها، فوق كل ذلك، كانت رائدة نهضة نسائية. التقت مع باحثة البادية، وألفت كتاباً عنها. والتقت مع هدى شعراوى وسيزا نبراوى المصريتين، وجوليا طعمه الدمشقية، اللواتى كنّ رائدات فى نهضة المرأة وفى الدفاع عن حقوقها وعن حريتها وتحررها، وعن الدور الذى يعود لها فى المجتمع.
روح المرأة
كل ذلك صحيح. لكننى أعتبر أن مراسلاتها مع أصدقائها من أدباء عصرها تشكل جنساً أدبياً يستحق أن يدرس. ففى رسائلها هذه، وفى إجابات أصدقائها على تلك الرسائل، يستطيع القارئ أن يكتشف من دون جهد أدباً رفيعاً. غير أن من المهم فى الوقت عينه أن نرى فى تلك الرسائل روح المرأة الباحثة عما لا تستطيع أن تحدده دائماً بوضوح. فهى تحب ولا تحب! ولعل أعمق مشاعر الصداقة المقترنة بالتقدير نجدها فى رسائلها إلى أمين الريحاني، الذى كان له الفضل الأكبر فى تحريرها من سجنها فى مستشفى الأمراض العقلية. وأذكر أسماء الذين تبادلت ميّْ الرسائل معهم: باحثة البادية وجوليا طعمة ويعقوب صروف والأب أنستاس الكرملى ولطفى السيد ومصطفى صادق الرافعى وخليل مطران وولى الدين يكن وشبلى الشميل وشبلى الملاط وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم وجبر ضومط وخليل مردم وإميل زيدان وشكيب أرسلان وكامل الكيلانى وفؤاد صروف وأنطون الجميل ومصطفى عبد الرازق وخير الله خير الله والشاعر القروى وأنيس المقدسى وعدد كبير من المستشرقين.
غير أن أكثر ما يلفت النظر فى مجموع مراسلاتها تلك الرسائل التى تعددت بينها وبين جبران خليل جبران. فقارئ هذه الرسائل من ميّْ إلى جبران ومن جبران إلى ميّْ يكتشف، إلى جانب القضايا الأدبية والإنسانية والإجتماعية والآراء العامة لكل منهما بشأنها، أن ثمة حباً حقيقياً بينهما. وكانت المسافة الفاصلة بين القاهرة وبوسطن ونيويورك هى التى جعلت ذلك الحب أقرب إلى الحب العذري، الحب الذى لا يتحقق إلا فى الروح.
تقول فى رسالة لها إلى جبران فى عام 1912: "إننا لا نتفق فى موضوع الزواج يا جبران. أنا أحترم أفكارك، وأجل مبادئك، لأننى أعرفك صادقاً فى تعزيزها مخلصاً فى الدفاع عنها، وكلها ترمى إلى مقاصد شريفة. وأشاركك أيضاً فى المبدأ الأساسى القائل بحرية المرأة. فكالرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشبان تابعة فى ذلك أميالها وإلهاماتها الشخصية، لا مكيفة حياتها فى القالب الذى اختاره لها الجيران والمعارف. حتى إذا ما انتخبت شريطاً لها، تقيدت بواجبات تلك الشركة العمرانية تقيداً تاماً. أنت تسمى هذه سلاسل ثقيلة، حبكتها الأجيال، وأنا أقول أنها سلاسل ثقيلة، نعم. ولكن حبكتها الطبيعة التى جعلت المرأة ما هي. فإن توصل الفكر إلى كسر قيود الإصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل إلى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء. لم لا تستطيع المرأة الإجتماع بحبيبها على غير علم من زوجها؟ لأن باجتماعها هذا السري، مهما كان طاهراً تخون زوجها وتخون الإسم الذى قبلته بملء إرادتها وتخون الهيئة الإجتماعية التى هى عضو عامل فيها".
وتقول فى رسالة إلى جبران فى عام 1924: "جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه فى السهرات والمراقص والإجتماعات يلمس الحب فى أعماقهم قوة دينميتية رهيبة قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم فى الأداء السطحى لأنهم لا يقاسمون ضغط العواطف التى لم تتفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون السكوت ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهى بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أى غربة وأى شقاء- وهل من شقاء وغربة فى غير وحدة القلب، على الإكتفاء بالقطرات الشحيحة؟".
وتقول فى رسالة لجبران فى عام 1925: "لا أريد أن تكتب لى إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك، أو عندما تنيلك الكتابة سروراً". وهى بذلك تريد أن تؤكد على استقلالية وعنفوان شخصيتها.
صبية
أما رسائل جبران فتشير إلى إعجابه بميّْ وبأدبها وبشخصيتها. يقول فى رسالة لها فى عام 1919: سلام على روحك الطيبة الجميلة. وبعد فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التى تفضلت بإرسالها إلي. فقرأت مقالاتك الواحدة إثر الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد. ولقد وجدت فى مقالاتك سرباً من تلك الميول والمنازع التى طالما حامت حول فكرتى وتتبعت أحلامي، ولكن هناك مبادئ ونظريات أخرى وددت لو كان بإمكاننا البحث فيها شفاهاً. فلو كنت الساعة فى القاهرة لاستعطفتك لتسمحى لى بزيارتك فنتحدث ملياً فى "أرواح الأمكنة" وفى "العقل والقلب" وفى بعض مظاهر هنرى برغسن. غير أن القاهرة فى مشارق الأرض ونيويورك فى مغاربها وليس من سبيل إلى الحديث الذى أوده وأتمناه".
وكتب لها فى العام ذاته رسالة يقول فيها:"هل تعلمين يا صديقتى أننى كنت أجد حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة. وهل تعلمين أننى كنت أقول لذاتى إن هناك فى مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت فى قدس الأقداس فعرفت السر العلوى الذى تخفره جبابرة الصباح، ثم اتخذت بلادى بلاداً لها وقومى قوماً لها. هل تعلمين أننى كنت أهمس هذه الأنشودة فى أذن خيالى كلما وردت عليّ رسالة منك؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ- وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأى والحكمة".
ويقول فى رسالة لها فى عام 1921: "... ليس فى حياتنا شيء أدعى إلى التفكر والتأمل من الأحلام. وأنا من الذين يحلمون كثيراً، بيد أننى أنسى أحلامى إلا إذا كانت ذات علاقة بمن أحبهم. لا أذكر أننى حلمت فى ماضى حلماً أوضح من هذا الحلم. لذلك أرانى مشوشاً مضطرباً مشغول البال فى هذا الصباح. ماذا تعنى رنة التوجع فى كلماتك الجميلة؟ وما معنى الجرح فى جبهتك؟ وأى بشرى يستطيع أن يخبرنى مفاد انقباضى وكآبتى؟ سوف أصرف نهارى مصلياً فى قلبي. سوف أصلى لأجلك فى سكينة قلبي. وسوف أصلى لأجلنا. والله يباركك يا ميّْ ويحرسك".
أردت من هذه المقتطفات من رسائل ميّْ إلى جبران ومن جبران إلى ميّْ أن أشير إلى علاقة من نوع خاص، نوع جميل ومنوع، بين رجل وامرأة، وبين أديبين لم يلتقيا. لكنهما عاشا علاقة إنسانية من نوع رفيع وغنى بالأفكار وبالمشاعر.
تركت ميّْ تراثاً غنياً من الكتب والكتابات التى تشير إلى شخصيتها الغنية المتعددة. أذكر منها على وجه الخصوص كتابها الذى كرسته لصديقتها "باحثة البادية" وكتابيها عن "وردة اليازجي" و"عائشة التيمورية". وهى كتب تشير فيها بجرأة إلى قضية المرأة فى حاضرها وفى مستقبلها. وترافق مع هذه الكتب الثلاثة كتاب تابعت فيه أبحاثها عن قضية المرأة بعنوان "المساواة". يضاف إلى هذه الكتب كتاب "غاية الحياة" الذى تعرض فيه ميّْ قراءتها للحياة فى معانيها وفى غاياتها. وثمة كتب أخرى تتراوح بين التأملات والقصص مثل "ابتسامات ودموع" و"سوانح فتاة" و"ظلمات وأشعة". وصدر لها بعد وفاتها كتاب يضم أعمالها المجهولة حققه جوزيف زيدان. وهو كتاب يكشف الكثير من كنوز ميّْ فى أدب الحياة. وأشير هنا إلى عناوين بعض هذه النصوص فى الكتاب تأكيداً لغنى هذه الشخصية الفذة: "كيف نقيس الزمان" و"شيء عن الفن" و"بين العدم والعمران" و"الساعات الأخيرة من سنة 1915" و"الاضطهادات الدينية عند الرومان" و"كلمة بحث فى شخصية طه حسين" و"نظرة فى الأدب العربي" و"ثقلاء التاريخ" و"رأس قاسم أمين" و"الحركة النسائية عندنا" و"ريحان الخريف" (قصيدة) و"بين الفاتيكان وجريدة آكسيون فرنسيز". وأكتفى هنا بالاستشهاد بفقرة مأخوذة من الموضوع الذى يحمل عنوان "شى من الفن". تقول مي: "لقد عرف الانسان الفنون قبل أن يعرف العلوم، لأن مخيلته اشتغلت قبل نبّه أفكاره. المخيلة ضيف تائه على الأرض وهى أقوى القوى الأدبية. حركتها لا تبطل أبداً فى الحياة، بل هى كالقلب تشتغل دائماً وعملها مستمر متواصل فى النوم وفى اليقظة. فيها تحفظ تذكارات الماضى وآثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات وأنغام وروائح وتأثيرات، ومن مزيج هذه التذكارات والآثار تتكون أصول الفنون، فيأتى التصور والابتكار عاملاً فى توسيعها، وزيادة فروعها وإتقان كمالاتها".
عالم ميّْ زيادة واسع وغني. ومن الصعب أن تختصر سيرتها وشخصيتها ونتاجها الأدبى ونشاطها الإجتماعى بكلمات. إنها ظاهرة تستحق أن تشبع درساً من أهل الإختصاص فى عالم الأدب والإبداع، وفى عالم المرأة. لكن علينا ونحن نشير إلى كل العناصر التى تميز شخصيتها أن عبقريتها قد تفتحت وازدهرت فى مصر وطنها الثانى.
لمزيد من مقالات كريم مروَّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.