في مثل هذه الأيام من عام 1941رحلت الشاعرة والكاتبة مي زيادة عن عمر يناهز55 عاماً، وهي صاحبة أشهر صالون أدبي في القاهرة ، وكان للصالونات الأدبية دور مهم في نشر وتبادل الثقافات المختلفة ، وملتقي للأدباء والباحثين والمهتمين من مواطن شتي ، يتدارس ويتحاور روادها أحدث ما صدر من الكتب الثقافية - وأول صالون شهده العالم في اليونان ، وهو لأسبازيا زوجة حاكم اليونان ، وبعدها عرفت فرنسا الصالونات الأدبية في القرن السابع عشر ،واكتسبت طابعاً عالمياً بمن كانوا يترددون عليها ، ومن أقدم هذه الصالونات الأدبية هو ( صالون آونيل وي رامبو ) كانت صاحبة الصالون مدام فيفون وذلك عام 1608 -أما الصالونات الأدبية في العالم العربي كان للسيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ويعتبر أول صالون شهده العرب - من ثم صالون الأميرة نازلي فاضل في القاهرة ، وهي بنت الأمير مصطفي فاضل وكان يشغل منصب ولي عهد للخديو اسماعيل ، وكان من رواد الصالون كبار الشخصيات من الأوروبيين والمصريين وأناس من ثقافات مختلفة وأهمهم الإمام محمد عبده الشيخ عبدالكريم سلمان وسعد زغلول وقاسم أمين -وفي سوريا أول صالون تشهده كان في مدينة حلب عام 1849 وهو منتدي وصالون مريانا مراش وهي أول أديبة سورية برزت في مجالات الأدب والشعر والصحافة في عصرنا الحديث. أما صالون مي زيادة وهو الأكثر شهرة بين الصالونات الأدبية وأحفلها بالشخصيات التي ترددت عليه ، وقد استمر نشاط الصالون قرابة ثلاثين عاماً وهي أطول مدة عرفها صالون أدبي في الشرق والغرب .. الميلاد والنشأة ولدت مي زيادة في الناصرة عام 1886، اسمها الأصلي ماري إلياس زيادة، واختارت لنفسها اسم مي فيما بعد. كانت تتقن ست لغات ومنها الفرنسية و الالمانية و الانجليزية والايطالية ، وكان لها ديوان باللغة الفرنسية.. تلقت الطفلة دراستها الابتدائية في الناصرة،والثانوية في عينطورة بلبنان. وفي العام 1907، انتقلت مي مع أسرتها للإقامة في القاهرة. وهناك،عملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته، عكفت علي إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها، وفيما بعد تابعت مي دراسات في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة. وفي القاهرة، تعرفت «مي» علي نخبة رائعة من الكتَّاب والصحفيين، وأخذ نجمها يتألق كاتبة مقال اجتماعي وأدبي ونقدي, وباحثة وخطيبة. وأسست «مي» ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء), جمعت فيها - لعشرين عامًا - صفوة من كتاب العصر وشعرائه، كان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، مصطفي عبدالرازق، عباس العقاد، د. طه حسين، شبلي شميل، يعقوب صروف، أنطوان الجميل، مصطفي صادق الرافعي، خليل مطران، إسماعيل صبري،وأحمد شوقي. وقد أحبّ أغلب هؤلاء الأعلام مي حبا روحيا ألهم بعضهم روائع من كتاباته. أما قلب مي زيادة، فقد ظل مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة. ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا: من 1911 وحتي وفاة جبران بنيويورك عام 1931 محنة ومؤامرة نشرت مي مقالات وأبحاثا في كبريات الصحف والمجلات المصرية، مثل: (المقطم -الأهرام - الزهور -المحروسة -الهلال) و(المقتطف). أما الكتب فقد كان باكورة إنتاجها العام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية وأول أعمالها بالفرنسية اسمها أزاهير حلم ظهرت عام 1911 وكانت توقع باسم ايزس كوبيا, ثم صدرت لها ثلاث روايات نقلتها إلي العربية من اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية. وفيما بعد صدر لها: (باحثة البادية) (1920) كلمات وإشارات) (1922) المساواة (1923) ظلمات وأشعة) (1923) بين الجزر والمد (1924), و(الصحائف) (1924). وفي أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران تعرضت مي زيادة لمحنة عام 1938, إذ حيكت ضدها مؤامرة دنيئة, وأوقعت إحدي المحاكم عليها الحجر، وأودعت مصحة الأمراض العقلية ببيروت. وهبّ المفكر اللبناني أمين الريحاني وشخصيات عربية كبيرة إلي إنقاذها, ورفع الحجر عنها. تقول نوال مصطفي الكاتبة الصحفية الكبيرة في كتابها البديع "مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ" .. لقد لقبوها ب " عروس الأدب النسائي " .. فهل لقب أحد أدباء عصرها اللامعين ب" عريس الأدب الرجالي "؟! إن هذا السؤال والإجابة عنه يلخص أن معاناة مي الحقيقية . فقد حالت أنوثتها بينها وبين النقاد والكتَّاب من زوار ندوتها .. ووقفت هذه الأنوثة بينها وبين إبداعها الفكري وإنتاجها الأدبي . فرجال عصرها انشغلوا بها كظاهرة نسائية فريدة لم يكن في ذلك العصر مثيلاً أو حتي شبيهاً لها . فكل الذين كتبوا عنها لم ينسوا أنها امرأة، فحللوها من هذا المنطلق دون حرج ناظرين إلي أنوثتها علي حساب فكرها . فكتبوا عنها كلاماً لا يتصور أحد أن يكتب مثله لو كان عن رجل ! ويقول الدكتور جوزيف زيدان أستاذ الأدب العربي بجامعة ولاية أوهايو في الولاياتالمتحدةالامريكية .. ومؤلف كتاب " الأعمال المجهولة لمي زيادة ": علي الرغم من إطلاق شتي الأوصاف الرفيعة عليها مثل " الأديبة النايغة " و " فريدة العصر " و " ملكة دولة الإلهام " و " حلية الزمان " و " الدرة اليتيمة " بقيت مي في نظر المؤسسة الأدبية الرجالية امرأة حتي أطراف أصابعها يصح أن تعامل وتقدم كأية امرأة . خصائص نسوية يصفها - مثلاً- صديقها أسعد حسني قائلاً : وكانت مي علي رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن " الاسترجال " وأشدهن استمساكاً بالخصائص النسوية .. بقامتها الربعة ووجها المستدير، وهي زجَّاء الحاجبين، دعجاء العينين، يتألق الذكاء في بريقها، وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها . أما سلامة موسي فيقرر : لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوة!! ويصف فتحي رضوان لقاءه الأول بمي عندما ذهب إلي بيتها فيقول :حينما دققت الجرس فتحت لي الآنسة مي بنفسها، فلاحظت لأول وهلة أن لها عينين ضيقتين تبدوان للنظار كأن بهما أثر من رق قديم، فليس فيهما شيء من الجمال . أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة، وأظنها أقرب إلي القصر من الطول ولم يقف فتحي رضوان عند وصف شكلها وجسدها بشكل تفصيلي .. بل وصف صوتها أيضاً .. فقال : وصوت مي تشوبه رنة حزن لا أدري إذا كانت طبيعية أم مصطنعة، وهي تقطع عباراتها، وكأنها تلحنها وتوقعها كأغنية (!!) .حتي نساء عصرها تحدثوا عن مي كامرأة فقالت عنها السيدة هدي شعراوي :لم تكن مي علي وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعني الصحيح للجمال ( !) ..وهنا نتساءل : لماذا لم يصف أحد كاتباً رجلاً مثل هذه الأوصاف الجسدية والصوتية .. ولماذا وضعت هي تحت الميكروسكوب الرجالي .. والنسائي أيضاً ؟!. الإجابة عن هذا السؤال جاءت علي لسان الكاتب فتحي رضوان عندما قال :مي كانت ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة أدبية . فقد كانت مي آنسة لبنانية، تكتب العربية والفرنسية، وتقابل الرجال، وتتحدث إلي الأدباء وأهل الفكر، ويتحدثون إليها، وفيهم أكثر من أعزب عاش حياته بلا زوجة، وهم جميعاً بين متزوج وأعزب يضطربون في مجتمع لا تبدو فيه المرأة إلا كالطيف . وإذا أسفرت واحدة من النساء كانت كالمحجبة تماماً، لأنها لا تحسن حديثاً يشوق الرجل المثقف أو يمتعه، أو يثير خياله أو يوحي إليه أو يلهمه بفكرة أو عاطفة أو خاطره . إلي هذا الحد ظلم الرجال عقل مي وفكرها وإبداعها .. وتجاهلوا إنتاجها الفكري الثري والفريد .. واكتفوا بمدحها كمحدثة جيدة .. ومثقفة ملهمة .. وشخصية محبوبة !!