واعتبرت انعكاساً صحياً وسليماً لواقع الحركة الأدبية والثقافية في المجتمع وكانت بمثابة مركز ثقافي يتناول مختلف القضايا، خاصة في ظل غياب وسائل الاتصال الحديثة آنذاك.. كان هذا التقليد له دور مهم في احتضان الثقافة والفكر وتكريس مبادئ الحوار، وتسليط الضوء علي الانشطة الفكرية، والثقافية المختلفة. شاعت الصالونات الأدبية في البداية في عدد من منازل الشخصيات الارستقراطية، والأدباء والوجهاء، وكانت تدار من خلالها شتي الأحاديث الأدبية والثقافية وفي كثير من الأحيان السياسية والاجتماعية ولأن القاهرة هي قلب العالم العربي، وقبلة الثقافة والأدب فقد دأبت الصالونات الأدبية علي تقديم أفضل أساليب التواصل بين المبدعين، وشكلت تواصلاً مباشراً وحميماً بين أبناء الجيل الواحد، وكذا بينهم وبين أجيال الشباب الطامحين إلي التقدم واستلام الرواية، إلا أن الصالونات الأدبية لم تكن يوماً حكراً علي الرجال دون النساء، فالإسهامات النسائية، في هذا المجال كانت كبيرة وفاعلة وتضرب بجذورها في التاريخ الذي يذكر منتديات فكرية وثقافية نسبت إلي نساء كثيرات في عصور الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، والعباسي، والأندلسي مثل منتدي سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة ونزهون الغرناطية، وولادة بنت المستكفي، وصولاً إلي العصر الحديث الذي برز فيه اسم مي زيادة بقوة في القاهرة.. بل إن الصالونات الأدبية النسوية نالت من الشهرة والحظ ما لم تنله الصالونات الذكورية، قبل حوالي قرن من الزمان شهدت القاهرة ميلاد أهم صالون ثقافي في تاريخها الحديث عندما قررت الأديبة- لبنانية الأصل- مي زيادة تأسيس صالونها الذي ظل لأكثر من ربع قرن منارة ثقافية تجتمع فيها رموز الفكر والأدب أسبوعيا كل ثلاثاء، ورغم هذا التاريخ البعيد فقد بدا مؤخرا أن القاهرة علي موعد من جديد مع "صالون مي" لكنها مي أخري بالطبع، فقد كان لافتا للوسط الثقافي إقدام السيدة "مي آربل" زوجة السفير الألماني في مصر بيرند اربل علي تأسيس صالونها الثقافي وكان من المدهش إلمامها التام باللغة العربية الذي ربما يعود لأصولها اللبنانية وقد لبي عدد من كبار رجال السياسة والصحافة والأدب الدعوة للمشاركة في هذا الصالون الذي بدأت جلساته قبل عدة أشهر في منزل السفير وكان من المفاجئ إجادته هو أيضا للعربية. جذب الصالون الوليد أطيافا مختلفة من المثقفين المصريين والأجانب، لكنه لم ينتظم بصفة دورية علي الرغم من إعلانه كصالون شهري كما أن الجهد الذي تبذله حرم السفير الألماني في اختيار موضوعات النقاش أثناء اللقاء في صالونها يحظي باحترام المترددين عليه خاصة من الأكاديمين وإن أخذ عليه ما يؤخذ علي الصالونات التي يقيمها الأجانب في مصر من تقييد حرية النقاش في بعض الموضوعات التي تمس الشأن الداخلي للبلاد حرصا علي حساسية موقف أصحاب الصالون. يلقي هذا الصالون الضوء علي نوع جديد من الأنشطة التي يمثلها اتجاه مختلف عما سبق في الظهور بين الجاليات الأجنبية المقيمة، فقديما كانت مثل هذه الأنشطة توصم بالعمل المخابراتي الذي يستهدف سبر غور المجتمع العربي وجمع معلومات عن خفاياه إذ كان القائمون علي تلك الأنشطة من كبار موظفي الخارجية لكن الحقبة الأخيرة أسفرت عن ظهور تيار المستشرقين الجدد الذين يتعاطون مع المجتمعات العربية من منطلق ثقافي بحت ولا يأخذون من هذه المجتمعات موقفا استعلائيا. والمتأمل للمشهد الثقافي في مصر يمكنه إدراك ما تشهده الحياة من حراك ثقافي ونشاط مضاد للتيار المتشدد الذي يواصل زحفه نحو طبقات المجتمع الأقل ثقافة وقد جاء انتعاش ظاهرة الصالون الثقافية مواكبا للحراك السياسي الذي تشهده مصر وعودة اليسار المصري للمشاركة بعد أن ظل لفترة مكتفيا بدور المتفرج.. إضافة لبعض التيارات الليبرالية التي تسعي أيضا للتواجد، لكن ذلك الزخم الثقافي لا يمنع من إلصاق صفة النخبوية بالصالونات الثقافية علي مر تاريخها وإن لم يخل الأمر من بعض الاستثناءات. في مطلع القرن الماضي كانت الصالونات الثقافية انعكاسا لحيوية الوسط الثقافي وساحة لاكتشاف المواهب المختلفة في الكتابة والنقد أيضا، وربما كان "صالون العقاد" الذي كان يعقد يوم الجمعة من كل أسبوع الأكثر حضورا في الذاكرة العربية خاصة بعدما سجل بعض رواده، وأبرزهم الكاتب أنيس منصور أهم الأحداث والأفكار التي طرحت فيه. أما الصالون الأكثر عراقة وأصالة بين الصالونات الثقافية المعاصرة فهو الصالون الثقافي الخاص بالناقد د. عبد المنعم تليمة أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة فقد امتد عمر هذا الصالون لأكثر من نصف قرن حافظ فيها علي انتظامه وحدد رواده منهجا علميا لتؤتي جهودهم ثمارها علي المدي البعيد، وقد جاء تأسيس هذا الصالون في سياق حالة النهوض القومي منتصف الخمسينيات وإن كانت أولي لبناته وليدة المصادفة، ففي نوفمبر 1956 وبعد إعلان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس ومع بدء العدوان الثلاثي علي مصر أغلقت جامعة القاهرة أبوابها أمام طلابها، حينئذ لم يكن من الممكن أن يقف الطلاب متفرجين علي ما يجري ، كانت جلسات النقاش التي تجمع د. عبد المنعم تليمة بزملائه من الطلاب الوافدين من بلاد الشام والعراق والمغرب تمتد ولم يكن هناك مكان يمكن أن يجمعهم في ظل غارات الحرب، هنا اقتراح د. تليمة علي رفاقه أن تتم اجتماعاتهم بصفة دورية في منزل أسرته في مصر القديمة. وفي ذلك المكان الفريد الذي يجمع بين أهم معالم الديانات السماوية الثلاث "مسجد عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي" أسس تليمة صالونه الثقافي الذي انتقل إلي مقره الحالي في الدقي عام 1968 وانتظمت جلساته أسبوعيا كل خميس ، في هذا الصالون تخرجت أجيال من الكتاب والنقاد الذين يدينون بالفضل للناقد الكبير فضلا عن مشروعات كبري سعي رواد الصالون لتحقيقها، أحدثها الدراسات الأكاديمية التي قام بها فريق من المتخصصين من رواد الصالون لوضع تصور لمصر عام 2010. صحيح أن مثل هذه الدراسات نادرا ما تجد من يلتفت لأهميتها ويسعي إلي تطبيقها لكنها تعكس حماسا لا ينقطع وإيمانا بالوطن إضافة لممارسة ديمقراطية لا يستأثر من خلالها صاحب الصالون بأي سلطة علي ضيوفه. في حين يعد صالون د. محمد حسن عبد الله أستاذ الأدب بجامعة القاهرة -والذي يقام شهريا في حي المعادي في الجمعة الأخيرة من كل شهر علي مدي نحو خمسة عشر عاما- من أهم الصالونات المعنية بالأدب إذ يحتفي بالاصدارات الجديدة ويتناولها نقديا من جانب متخصصين ويتردد علي الصالون شخصيات مثل: د. محمود الربيعي ود. صلاح قنصوة وناجي فوزي ود. عبد الغفار مكاوي وعبد الحكيم حسان وإدريس علي، فضلا عن الضيوف العرب الذين يخصص لهم الصالون شهر يناير خلال معرض الكتاب السنوي للحوار وتبادل الأفكار حول قضايا الأمة العربية الفكرية والثقافية. وقبل أكثر من عشر سنوات أسس د. حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة صالونه -الذي يعقد شهريا يوم الاثنين الثاني من كل شهر- بمنزله في حي الدقي، ويستضيف في كل لقاء أحد رموز الحركة الأدبية المصرية مع طرح قضية أدبية يعقبها حوار ومناقشة مع تقديم فاصل موسيقي ومن رواد الصالون د. عبد المنعم تليمة ود. مراد وهبة و د. محمد عبد المطلب. ويبدو أن الصالونات الثقافية بدأت مرحلة جديدة من الازدهار بعدما خبت لفترات طويلة، وربما تصبح في وقت قريب منافسا حقيقيا للأنشطة الرسمية وربما تتفوق عليها لتخلصها من الصبغة الروتينية وما يتحلي به الحوار في الصالونات منش ديمقراطية وحميمية وما تتيحه أيضا من تعدد الاختصاصات والانفتاح علي حقول معرفية متنوعة خلال الجلسة الواحدة، بقي أن تتخلص الصالونات الثقافية من سمتها النخبوية لتتمكن من دعم المشهد الثقافي والاجتماعي في مصر. الواقع أننا في حاجة إلي المزيد من هذه الصالونات الفكرية، لنريح حالة الجمود الثقافي الذي يعاني منه العرب والمسلمون في الوقت الحاضر، فإحياء هذا التقليد من الأعمال التي تستحق الإشادة، لأنه يكرس لتصحيح المسار والارتقاء بأدب الحوار، حتي يبزغ فجر جديد للحوار وآدابه بين المثقفين الذين هم طليعة الأمة في التنوير والإصلاح، الاجتماعي، والسياسي، والأخلاقي من حقنا أن تفرح بكل صالون أدبي وثقافي جديد ونشجعه حتي تعود الروح الغائبة للحياة الأدبية والثقافية التي كانت القاهرة مركزاً لازدهارها وإشعاعاتها علي المنطقة العربية كلها.