عندما صدرت صحيفة «المساء» فى 6 أكتوبر عام 1956، حاولت أن تقدم تجربةً جديدةً فى الصحافة، وخلطة سياسية وثقافية وفكرية واجتماعية خاصة جدا. هذه الخلطة استطاعت أن تجمع أطيافًا عديدة من التوجهات الفكرية والسياسية، هذه الأطياف التى ترضى السلطة عن كل ما تقدم، وفى الوقت ذاته يقدمون ما يخصهم، لذلك قرأنا موضوعات لكتّاب مثل أنور عبد الملك وعبد العظيم أنيس وطاهر عبد الحكيم وفتحى عبد الفتاح وعلى الشلقانى وغيرهم. هذا كان يحدث حتى دبّ خلاف عميق بين السلطة والشيوعيين المصريين، بعد خلافها مع عبد الكريم قاسم فى العراق، وبعد الإعلان عن الوحدة المصرية السورية، وتحفظ الشيوعيون على هذه الوحدة الاندماجية، التى لن تنجح بأى شكل من الأشكال، وتبعًا لذلك كشّرت السلطة عن أنيابها فى أول خلاف حقيقى بينها وبين اليسار، وتعاملت مع اليسار بوجهها الآخر القمعى، فوضعت كل هذا اليسار الشيوعى والديمقراطى فى المعتقلات، وكان نصيب غالبية محررى جريدة المساء خلف القضبان، كما يتحدث فتحى عبد الفتاح فى كتابه شيوعيون وناصريون ، كأحد الذين قبض عليهم آنذاك. لذلك ترك خالد محيى الدين الجريدة، وتولى رئاسة التحرير مصطفى المستكاوى كبديل له، وحاول هذا الأخير أن يبقى على تبويب الجريدة القديم كما هو، واستدعى كتّابا آخرين ليملؤوا الفراغ الشاغر، الذى حدث فى الجريدة، فغابت الأسماء التى ذكرناها سالفًا، وراحت أسماء أخرى تطفو على السطح، لما لها من كفاءات صحفية وأدبية وثقافية، بعيدا عن فكرة الولاء السياسى من عدمه، لكن الأكيد أنهم لم يكونوا يومًا ما ضد السلطة. وكان على رأس هؤلاء الشاعر والصحفى، الذى كان ضابطًا فى القوات المسلحة قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وبعد قيام الثورة استعان به أحمد حمروش فى مجلة التحرير ، التى صدر عددها الأول فى 17 سبتمبر 1952، وخلع بدلة الضابط، مثل كثيرين فى ذلك الوقت، ليجلس على مقعد الصحفى، وبالفعل قدم مجهودات طيبة فى ذلك الوقت، وعمل فى قسم التحقيقات بالمجلة، وكان يكتب مقالات وأعمدة مناسبة للأحداث فى ذلك الوقت. وعندما ترك أحمد حمروش المجلة بعد صدور العدد الثالث، وجاء بعده ثروت محمود عكاشة، استبقى مجموعة من الصحفيين، واستعد آخرين، وكان مصطفى بهجت بدوى ضمن الذين استمروا فى التحرير، وفى 7 ديسمبر 1953 صدر العدد الأول من صحيفة الجمهورية ، وأصبحت هناك مؤسسة كاملة اسمها مؤسسة دار التحرير ، التى أصدرت المجلة، ثم الجريدة، وكذلك شهد مصطفى بهجت بدوى ولادتها، وراح يواصل الكتابة فى الجريدة. وحدث أن أصدرت المؤسسة كما أسلفنا جريدة المساء عن المؤسسة ذاتها، وابتدعت أبوابًا خاصة للتواصل مع كل قطاعات المجتمع، وكان من بين هذه الأبواب، باب شهير يأتى فى إطار مميز، وفى الصفحة الأخيرة، وكان اسم الباب مع الناس ، وتقلّبت على هذا الباب أسماء عديدة فى ظل التقلّبات السياسية، وبالتالى الصحفية، لكن كان الشرط الأساسى فى هذا الباب أن يتناول الكتّاب القضايا المتقاطعة بالفعل مع حياة الناس الاجتماعية، دون التقعرات الغليظة عند البعض. وفى 10 ديسمبر 1959 كتب بدوى مقالًا فى هذا الباب، وكان يكتبه بشكل أسبوعى، وفى هذا اليوم تناول أمرين، الأمر الأول يتعلق بشخصية ما، تعمل ليلا ونهارا من أجل الناس، فى صمت وفى جدية كاملة، لكن هذه الشخصية لا تتحدث عن نفسها بأى شكل من الأشكال، ولو أراد أن يتحدث، فسوف تفتح له كل المنابر، لكن متعته الكبرى أنه كان يعمل فى ظل هذا الصمت، وآثر مصطفى بدوى أن يقدم إليه التحية دون ذكر اسمه ما دام أنه يريد ذلك. أما القضية الأخرى التى تحدث عنها بدوى فتتعلق بالأذان، حيث إن وزارة الأوقاف قد اعتمدت الأذان الذى يكون ملحقًا به الصلاة على النبى، وكان بدوى يرى أن هذا الإلحاق هو نوع من البدعة، ولم يوجد فى تاريخ المسلمين وأذاناتهم أى ذكر لهذا الأمر، لكنه عاش إلى هذا الوقت ليشهد تقنين البدعة، واعتمادها بشكل رسمى، رغم أنها تخالف كل ما أتت به جمهرة المسلمين على مدى التاريخ، وراح بدوى ينبش فى كل المواقف والأحاديث والأقوال المأثورة ليثبت الخطأ الذى وقعت فيه الوزارة، وعليها أن تتراجع عن هذا الأمر فورًا. وبعيدا عن هذا المقال فالكاتب والشاعر والصحفى مصطفى بهجت لم يكن هو الضابط الوحيد، الذى مارس الثقافة والصحافة، لكن كان كل هذا الجيل، من الضباط، الذى نشأ ونمت مواهبه وإمكانياته فى ذلك الوقت، كانت له اهتمامات ثقافية وأدبية شتى، وكتبنا أكثر من مرة عن هذه الظاهرة، التى اختفت تمامًا، فليس لدينا ثروت عكاشة ولا أحمد حمروش ولا كمال الدين الحناوى ولا يوسف السباعى ولا مصطفى بهجت بدوى، الذى أصدر ديوانه الأول وجدان حائر فى عام 1947، عندما كان ملازم أول ، وظل يكتب قصائده حتى قامت الثورة، فنقل نفسه بشكل كامل إلى عالم الصحافة والثقافة، والتحق بدار التحرير محررا وصحفيا، حتى إنه أصبح رئيسا للتحرير، ولمجلس إدارتها، وعاش كثيرا فى كواليس السبعينيات، وكتب عن تجربته الصحفية المتقاطعة مع السياسة فى شجاعة توفرت له بعد رحلة طويلة فى عالم الصحافة، وبعد أن أيقن أن السكوت لم يصح علامة على أى رضا إطلاقا، لذلك كتب عددا من الكتب، على رأسها وجاء العيد بعد العاشر من رمضان ، وبعده من مذكرات رئيس تحرير ، وفى هذا الكتاب، كشف عن كواليس ما حدث فى 15 مايو 1971، وقد أطلق عليه الإعلام التابع والبائس آنذاك ثورة التصحيح، ولو أردنا أن نعدّد ما حدث وما أطلق عليه الثورات فى مصر، لن ننتهى أبدا، وفى هذا الكتاب واجه بدوى كل خصومه من كتّاب التقارير والمخبرين، الذين أصبحوا موجودين بشكل غير لائق فى المؤسسة، ونشر بعض الرسائل المتبادلة بينه وبين آخرين مثل محمد عودة وغيره، ليظل هذا الكتاب شهادة دامغة ودائنة لبعض ما يحدث فى عالم الصحافة، التى تخضع وتأتمر وتنحنى كثيرا لعالم السياسة، اللهم احفظنا من كل ذلك.