«فى نهاية المناقشات التى جرت فى مجلس الشعب، تمت الموافقة على معاهدة السلام بأغلبية 329 صوتا مقابل 15 صوتا، وامتناع صوت واحد. وفى هذه اللحظة أصابت المجلس هيستيريا جماعية، ووقفت فايدة كامل المطربة المصرية والنائبة فى المجلس على المقعد وصاحت: (يحيا السادات! تحيا مصر!)، كلمات رددها وراءها أعضاء المجلس. ثم بدأت تنشد: (بلادى بلادى بلادى، لك حبى وفؤادى)، أغنية وطنية كانت تعتبر بمثابة النشيد الوطنى. وبدأ جميع أعضاء المجلس ينشدون الأغنية فى مناخ محمل بالكثير من المشاعر. بعد بضعة أيام، قرر السادات أن يكون نشيد (بلادى.. بلادى..) هو النشيد الوطنى لمصر بداية من هذا اليوم». السطور السابقة مسجلة على لسان د.بطرس بطرس غالى، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وأحد أبرز أعضاء فريق المفاوضات المصرية الإسرائيلية، وهى سطور وردت فى كتاب رائع يلخص العديد من مراحل الصراع العربى الإسرائيلى بعنوان «ستون عاما من الصراع فى الشرق الأوسط»، جرت فيه حوارات مزدوجة بين غالى ورجل السياسة والقتل الإسرائيلى المخضرم شيمون بيريز. فى كل الأحوال يبدو مدهشا أن النشيد الوطنى الذى يردده ملايين كل يوم فى طابور الصباح أو المناسبات الرسمية أو حتى مباريات كرة القدم الوطنية، هو وليد لحظة «هيستيريا جماعية»، وحماسة زائدة من مطربة، حولت قاعة مجلس الشعب الوقورة إلى ساحة مسرح جمهوره هو الكورال نفسه، لكن هذه لحظات استثنائية نادرة، لاحظ أن كل هؤلاء صوتوا للتوّ بالموافقة على اتفاقية سلام مع عدوّ بينهم وبينه ميراث طويل من الدم، وخاضوا ضده أربع حروب على مدار 40 عاما، انتصروا فى واحدة منها فقط، مع مراعاة أن منهج السلام الذى اتبعه الرئيس السادات بدا طريقا شاذا ومنفردا وسط عالم عربى صاخب يأكل بعضه بعضا، ويعيش زعماؤه فى أوهام القيادة، ولا يملك أى تصور عن الخطوة التالية بعد الدخول فى صراعات مسلحة مع إسرائيل. الهيستيريا الجماعية ليست سيئة دوما إذن، فها هى تنتج لنا نشيدا وطنيا تقشعرّ له الأبدان، ويغذى الروح الوطنية لمن يقوله بفهم ووعى وإدراك، لا لمن يكرره فى رتابة وملل وبفقدان إحساس واضح بالمعنى. لكن ماذا فعلت السيدة فايدة كامل بعد ذلك؟ فى جلسة تالية لمجلس الشعب، وباعتبارها أيقونة للهيستيريا الجماعية، عملت على تعديل دستورى يتيح للرئيس السادات الترشح للرئاسة مجددا ولدورات رئاسية مفتوحة إلى أن يشاء الله، استنادا إلى الدور الذى لعبه فى الحرب والسلام. هل فعلت ذلك متأثرة بنشوة النشيد الوطنى، أم بتنسيق مع السادات، أو حتى بدعوة منه باعتباره كان من البشر الذين لا ينسون الجميل؟ هذه أسئلة وجودية لن تجد إجابة قاطعة لها. المهم أن الرئيس السادات نفسه لم يستفد من تعديل الدستور على خلفية «الهيستيريا الجماعية»، إذ اغتيل عقب دورتين رئاسيتين عام 1981، ليفوز خلفه «مبارك» ببركات الهيستيريا ذاتها، ويظل فى منصبه لنحو 30 سنة متصلة. المدهش أن السيدة فايدة كامل التى توفيت عام 2011، كانت زوجة للنبوى إسماعيل وزير الداخلية فى نهايات عصر الرئيس السادات، وهو الوزير نفسه الذى لم يخجل مطلقا من أن يخرج فى لقاءات تليفزيونية ليتحدث عن أنه كان يتوقع اغتيال السادات فى المنصة، لكنه لم يكن يملك ما يجعله يغير من القدر، «وكأنه مواطن مصرى بسيط يزرع أرضه فى أقصى الصعيد، لا وزير داخلية أكبر دولة عربية». مات الرئيس السادات أيضا متأثرا بحالة متطرفة من الهيستيريا الجماعية، التى أصابت الجماعات الإسلامية، فلم تعد ترى حلا إلا فى إزاحة الرئيس من المشهد ولو كان ذلك عن طريق القتل. هكذا إذن الهيستيريا الجماعية، تصنع نشيدا وطنيا، وتخرق دستورا، وتقتل رئيسا استثنائيا.. وقانا الله وإياكم ما تخفيه دوما!