دأبت إحدي الفضائيات المصرية - منذ المساء الحزين للأربعاء الأول من فبراير الحالي- علي بث نشيد " اسلمي يا مصر" خلال الفواصل الزمنية بين ما تقدمه من تغطيات وحوارات ، بدا النشيد آنذاك لي وكأنني أسمعه للمرة الأولي ، أو كأنني لم أسمعه من قبل ، وذلك بالرغم من أنني رددته مع زملائي في طابور الصباح بمدرسة قوص الريفية الابتدائية ، طوال ست سنوات وقبل أكثر من نصف قرن ، غير أن قاسماً مشتركاً - ظهر واضحاً لي بعد التأمل - بين أحوال مصر عند ترديدي للنشيد صغيراً وأحوالها الآن ، هو أنها كانت تعيش أيام فوران وطني تفصل بين عهدين ، عهد يلفظ أنفاسه بعد طول معاناة معه ، وعهد يلوح في الأفق يستبشر الناس معه خيراً ، لقد تداعت علي خواطر عدة بعد استماعي لهذا النشيد مؤخراً ، سوف أجملها للقارئ فيما يلي. في خضم الثورة تعد الأناشيد نتاجاً لثورات الشعوب ، ولعل نشيد المارسيليز الذي انطلق مع الثورة الفرنسية (1789 م) هو المثل الحاضر والأشهر علي ذلك ، وكما هو معروف مما حفظته الكتابات التاريخية عن ثورة الشعب المصري في عام 1919م، أن الجماهير كانت تردد في الشوارع المحيطة بمنزل سعد زغلول في القاهرة أناشيد كثيرة ، منها نشيد " يحيا سعد " الذي لحنه أحمد خيرت ولقنه للصبية والأطفال ، الذين راحوا يرددونه في الشوارع علي أنغام المزامير وقرع الطبول ، وردد الناس مع مجدي ناصف المطلع التالي لنشيد آخر: الحق لنا ويد المولي تعلو لتبارك أيدينا إن لم يجمعنا الاستقلال ففي الفردوس تلاقينا فلينزل غضب الشعب علي من يتصدي للوطنية ولتحيا مصر بالاستقلال وتحيا فيها القومية وكان من بين أناشيد ثورة 1919م نشيد نظمه الكاتب الصحفي المعروف فكري أباظة ، ثم قام فكري أباظة بتلحين النشيد واستعان بعازف علي البيانو يدعي ليون ويصا لتسجيل نشيده ، الذي تكون مطلعه من الأبيات التالية: أبناء الوطن هلموا سيروا إلي الأمام ارفعوا الصوت قوياً فالحر لا يضام أوادي النيل تطلع وفاخر بالأبناء بذلوا الدماء وفقدناهم شهداء وكان من جراء تأليف فكري أباظة لذلك النشيد أن أصدرت سلطات الاحتلال حكماً بإعدامه ، وتغنت الجماهير الثائرة بالأغنية الشعبية الشهيرة " ياوابور الساعة 12 يا مقَبّل ع الصعيد " بعد أن أبدل مجهول كلماتها لتصبح علي النحو التالي : يا وابور الساعة 12 يا مقَبّل علي مالطة هات لي معاك بلطة أكسر بيها قيودي أرجع مجد جدودي يا وابور الساعة 12 يا مقَبّل علي مالطة طمن لنا زغلول قول له البلد بتقول الواد ماسك طوبة والحرمة في إيدها بلطة والراجل ماسك فاسه والأفندي بيشغّل راسه والأمة يد واحدة وما عملناش ولا غلطة والإنجليز بقوا سُلطة يا وابور الساعة 12 يا مقَبّل علي مالطة يأتي نشيد " قوم يا مصري " الذي ألفه بديع خيري ولحنه وتغني به فنان الشعب خالد الذكر : الشيخ سيد درويش في طليعة ما أطلقته ثورة 1919م من أناشيد ، حيث ظهر النشيد في عام 1919م ، ورددته جماهير المصريين خلف سيد درويش في ربوع المحروسة من الإسكندرية إلي أسوان ، وقد صاغ سيد درويش لحن هذا النشيد من مقام عجم ، واستهله بديع خيري بالأبيات التالية : قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك خد بناصري ناصري دين واجب عليك يوم ما سعدي راح هدر قدام عينيك عد لي مجدك اللي ضيعته بأيديك ويصعب علي كاتب إحصاء ما أطلقته ثورة 1919م من أناشيد وأغنيات وطنية ، حيث طوي النسيان معظمها ، وعمل ضعف تقنيات الحفظ والتسجيل المعروفة في ذلك العهد علي اندثار أكثرها . النشيد الوطني لا يقتصر ظهور الأناشيد مع تمخض الثورات بالأحداث ، حيث تظهر أيضاً مع إنتعاش الروح الوطنية إثر موجات الحماسة الوطنية التي تسبق الثورات أو تعقبها ، ففي عام 1920م - وقبل عودة سعد زغلول من منفاه في أبريل 1921م - وبينما كانت صدور المتظاهرين من المصريين تستقبل رصاص الإنجليز ، تألفت لجنة برئاسة جعفر والي باشا لإختيار نشيد وطني لمصر ، وقد اختارت اللجنة نشيداً وضعه أمير الشعراء أحمد شوقي ، ليعطيه سيد درويش لحنا من مقام النهاوند وينشده في عام 1921م ، وفيما يلي نقدم المقطع الأول من هذا النشيد : بني مصر مكانكمو تهيا فهيا شيدوا للملك هيا خذوا شمس النهار له حليا ألم تك تاج أولكم مليا هذا وقد أدلي الشاعر والأديب مصطفي صادق الرافعي بدلوه في مجال نظم نشيد وطني لمصر ، حيث نظم في تاريخ مقارب لانعقاد لجنة جعفر والي باشا نشيد " اسلمي يا مصر " ، ذلك النشيد الذي لحنه صفر علي وتضمن الأبيات التالية : اسلمي يا مصر إنني الفدا ذي يدي إن مدت الدنيا يدا أبداً لن تستكيني أبدا إنني أرجو مع اليوم غدا ومعي قلبي وعزمي للجهاد ولقلبي أنت بعد الدين دين لك يا مصر السلامة وسلاماً يا بلادي إن رمي الدهر سهامه أتقيها بفؤادي وأسلمي في كل حين أنا مصري بناني من بني هرم الدهر الذي أعيا الفنا وقفة الأهرام فيما بنينا لصروف الدهر وقفتي أنا في دفاعي وجهادي للبلاد لا أميل لا أمل لا ألين ويك يا من رام تقييد الفلك أي نجم في السما يخضع لك وطن الحر سما لا تمتلك والفتي الحر بأنفته ملك لا عدا يا أرض مصر بك عاد إننا دون حماك أجمعين للعلا أبناء مصر للعلا وبمصر شرفوا المستقبلا وفدي لمصرنا الدنيا فلا نضع الأوطان إلا أولا جانبي الأيسر قلبه الفؤاد وبلادي هي لي قلبي اليمين لك يا مصر السلامة وسلاماً يا بلادي ان رمي الدهر سهامه أتقيها بفؤادي واسلمي في كل حين لم يعد نشيد " بني مصر مكانكمو تهيا " طويلاً في مقام النشيد الوطني ، حيث تجاوزته أناشيد كثيرة ، منها ما لحنه سيد درويش مثل نشيد " بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي " ، الذي كتبه محمد يونس القاضي وأعطاه سيد درويش لحناً من مقام جهاركاه ، لينشده المطرب المخضرم محمد بخيت في عام 1923م ، ومنها أيضاً ما لحنه الشيخ زكريا أحمد مثل أناشيد : " مصر أولادها رجال " - " نار الوطنية في القلب " و " قال يا سعد من غيرك زعيم " ، وعندما تصاعد الحماس الوطني في عام 1935م ، إثر ما دار من مناقشات حول عودة الحياة الدستورية إلي مصر ، إما بإعادة دستور عام 1923م أو دستور 1930م ، فإن حكومة محمد توفيق نسيم باشا - واستثماراً منها لحماس المصريين الوطنيين - أعلنت في عام 1935م عن مسابقة لتأليف نشيد قومي أو وطني ، وقد فاز بالمركز الأول في تلك المسابقة نشيد " بلادي بلادي فداك دمي " للشاعر محمد محمود صادق ، وهو من زعماء شباب ثورة 1919 ،وقد قام عبد الحميد عبد الرحمن بتلحين النشيد الذي يبدأ بالمقطع التالي: بلادي بلادي فداك دمي وهبت حياتي فدا فأسلمي غرامك أول ما في الفؤاد ونجواك آخر ما في فمي سأهتف ياسمك ما قد حييت تعيش بلادي ويحيا الوطن وقد فاز بالمركزين الثاني والثالث في مسابقة عام 1935م نشيدان آخران، أولهما نشيد "حماة الحمي" لمصطفي صادق الرافعي، وقد أعطاه الشيخ زكريا أحمد لحناً من مقام العجم ، فحقق شهرة كفلت له الانتشار حتي منتصف خمسينيات القرن العشرين ، والبيتان التاليان يمثلان مطلع هذا النشيد الجميل الذي رددته كثيراً مع زملائي في المرحلة الابتدائية: حماة الحمي يا حماة الحمي هلموا هلموا لمجد الزمن فقد صرخت في العروق الدما نموت نموت ويحيا الوطن بين الحركة والثورة شهد النصف الثاني من القرن العشرين خلافاً طريفاً بين قلة معاندة وكثرة ساحقة ، دار ذلك الخلاف حول تسمية ما حدث بمصر في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م ، فبينما كانت تصرّ قلة - تضم بقايا العصر الملكي وفلوله وبعض المثقفين - علي أن ما حدث في ذلك اليوم كان انقلاباً عسكرياً أو حركة للجيش ، وكان دليلهم علي ذلك ما برحت وسائل الإعلام تردده خلال الشهور الأولي التي تلت ذلك التاريخ عن " الحركة المباركة " ، لتشير به إلي ما حدث في 23 يوليو 1952م ، كانت الأغلبية الكاسحة - وأنا منهم - تطلق علي أحداث 23 يوليو 1952م اسم الثورة ، وظل هذا مذهبي حتي شهدت ما حدث في ميدان التحرير منذ الخامس والعشرين من يناير 2011م ، يومها أدركت الفرق بين الحركة والثورة . لا أحسب أن عصراً في مصر شهد من الأغاني الوطنية والأناشيد ما يقرب - وليس يماثل - ما أنتج خلال الفترة من يوليو 1952م وحتي مطلع عام 1974م ، واكبت تلك الأغاني ما شهده ذلك العصر من تحولات اجتماعية وإنجازات حضارية ، وانطلقت أناشيد تلك الفترة مع انفجارات ما شهدته من حروب ، ويمكن القول الآن إن أصدق وأعظم ما أبدع في تلك الفترة من أناشيد بزغ بين ثمانية وأربعين عملاً غنائياً أطلقتها الإذاعة المصرية في أسبوع واحد أثناء معارك العدوان الثلاثي ، التي دارت وقائعها خلال النصف الأول من شهر نوفمبر في عام 1956م ، ويجيء الدليل علي ذلك من إجماع آراء مستمعي الإذاعة المصرية من خلال استفتاء نظمته مجلة " الإذاعة " في مطلع عام 1957م لاختيار أنجح ما أذيع من غنائيات وطنية أثناء العدوان ، حيث اتفقت آراء أغلب من شاركوا في الاستفتاء علي جدارة نشيد " الله أكبر" بالمركز الأول ، وهو النشيد الذي ألفه الشاعر عبد الله شمس الدين ولحنه محمود الشريف وأنشدته أصوات مجموعة المرددين من الرجال بالإذاعة ، وتلاه - طبقاً لاختيار المستمعين - نشيد " والله زمان يا سلاحي " ، وهو من نظم صلاح جاهين وألحان كمال الطويل وغناء أم كلثوم ، وجاء ثالثاً في اختيارات المستمعين نشيد " دع سمائي " ، الذي كان من تأليف كمال عبد الحليم وألحان علي إسماعيل وهدر به صوت فايدة كامل ، وليس هناك ما هو أدل علي ما لتلك الأناشيد من قيمة من أن لحني الأوليان منها تحولا إلي سلام وطني لكل من ليبيا ومصر ، وما زال الثالث منهما يحتل مكانة رفيعة في قلوب المصريين عند سماعه بعد انقضاء ما مضي عليه من زمن ، حيث تضطرم القلوب بالحماس مع مطلع هذا النشيد الذي يتضمن الأبيات التالية: دع سمائي فسمائي محرقة دع قناتي فمياهي مغرقة واحذر الأرض فأرضي صاعقة والآن.... وعندما أكتب هذه السطور بعد انقضاء أسبوعين علي ثورة الشباب في ميدان التحرير ، تلك الثورة التي فاجأت الجميع وهزت مصر من أقصاها لأقصاها، أجدني الآن أسأل نفسي : هل ستطلق هذه الثورة نشيدها أم لا؟، وتمضي الأسئلة تتدافع في رأسي ، ومنها : تري ما مضمون ذلك النشيد؟، فقد اعتدنا أن نتغني في أناشيدنا بالوطن ونقاوم بها الأعداء؟ ، وحتي تضع ثورة 25 يناير نشيدها ، فإنه لا يسع المصريين - علي مختلف أطيافهم - الا أن يرددوا معاً مطلع نشيد صفر علي الذي لا يبليه الزمن : " اسلمي يا مصر إنني الفدا / ذي يدي أن مدت الدنيا يدا ".