آخر تحديث لسعر الذهب الآن في الأسواق ومحال الصاغة    قبل تفعيله الثلاثاء المقبل.. ننشر المستندات المطلوبة للتصالح على مخالفات البناء    «العمل»: التواصل مع المصريين بالخارج أهم ملفات الوزارة في «الجمهورية الجديدة»    «القاهرة الإخبارية»: جيش الاحتلال يطالب سكان شرق رفح الفلسطينية بمغادرة المنطقة    الرئيس الصيني شي يلتقي ماكرون وفون دير لاين في باريس    تحذير: احتمالية حدوث زلازل قوية في الأيام المقبلة    مفاجأة بشأن مستقبل ثنائي الأهلي    «الأرصاد» تكشف تفاصيل حالة الطقس في شم النسيم    في يوم شم النسيم.. رفع درجة الاستعداد في مستشفيات شمال سيناء    فيلم السرب يواصل تصدر شباك التذاكر.. حقق 4 ملايين جنيه في 24 ساعة    تحذير من خطورة تناول الأسماك المملحة ودعوة لاتباع الاحتياطات الصحية    محمد صلاح يُحمل جوزيه جوميز نتيجة خسارة الزمالك أمام سموحة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 6 مايو    تزامنا مع بدء الإخلاء.. تحذير من جيش الاحتلال إلى الفلسطينيين في رفح    موعد وقفة عرفات 1445 ه وعيد الأضحى 2024 وعدد أيام الإجازة في مصر    عاجل.. أوكرانيا تعلن تدمير 12 مسيرة روسية    وسيم السيسي يعلق علي موجة الانتقادات التي تعرض لها "زاهي حواس".. قصة انشقاق البحر لسيدنا موسى "غير صحيحة"    نيرمين رشاد ل«بين السطور»: ابنة مجدي يعقوب كان لها دور كبير في خروج مذكرات والدها للنور    تراجع سعر الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الإثنين 6 مايو 2024    أخبار التكنولوجيا| أفضل موبايل سامسونج للفئة المتوسطة بسعر مناسب وإمكانيات هتبهرك تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo وOnePlus Nord CE 4 Lite    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    سعر التذكرة 20 جنيها.. إقبال كبير على الحديقة الدولية في شم النسيم    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالحكيم قاسم بالجلباب والقبقاب
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 01 - 2011

كأنه شجرة، كأنه فأس، فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، كان عبدالحكيم قاسم شيوعيا مسجونا فى سجن الواحات، وفى السجن بدأ التخطيط لروايته التى سيكون اسمها فيما بعد «أيام الإنسان السبعة»، وفيها، أى أوائل الستينيات، استعاد الحضرة والخبيز والسفر والخدمة والليلة الكبيرة والوداع والطريق، وفيها اجتهد وانحنى وكابد ليجعل من نفسه شبيه الإنسان الكامل، ليجعل نفسه الإنسان الكامل، وفيها: كنت تلميذا بالمدرسة الإعدادية، أفتتح مراهقتى بأحلام ماجنة، أعرّى هانم وأخمشها وأتفنن فى الالتذاذ معها، لأصير شبيه المراهق الكامل، فى الستينيات، وفى مدرسة أبى بكر الصديق الإعدادية بكوبرى القبة، التى كانت على يسار قصر القبة من زاوية ما، وعلى يمينه من زاوية أخرى، كان عادل فيليب يقاسمنى مقعدى ودرجى، وأقاسمه صليبه ومسيحه، وأحبهما معه، وأحبه معهما، ولما قرأت روايات هيرمان هيسه الألمانى لغة أصبحت أرى عادل، وكأنه جولدموند أحد أبطال هيسه الذى استحوذ على مجمل مشاعر أستاذه نرسيس.
إنه جولدموند الذى يفوقنى أنا نرسيس طبقيا واجتماعيا، ورقّة ونعومة، وكنت أجبر نفسى على إخفاء سندويتشاتى التى أشتريها من مطاعم أبوعلوة، وآكلها باشتهاء فاضح عجيب، آكلها فى سرية، حتى لا يرانى عادل الذى سندويتشاته صعبة الأسماء، غريبة الرائحة، كان عادل يلبس ملابس أحب أن أتأملها، ويتعطر كأنه فى حفل، ويمشى محفوفا بالأسرار، كم تمنيت أن أصاحبه وأصحبه وأمسك يده لنمشى معا، فقط من المدرسة إلى القصر، فإذا سألنى أحدهم: ما اسمه؟ أجبت بشغف: المسيحى الكامل، وها هم مسيحيو عبدالحكيم، يخرجون من رسائله غامضين مريبين، كأنهم أعداء
كأنهم خونة، حتى إدوار الخراط يخرج مرسوما بخطوط باهتة، أتذكر الآن عادل فيليب، وأنظر بحسرة إلى طابور لويس عوض وناجى نجيب وماهر شفيق فريد وألفريد فرج، أتخيل الطابور ينتقل كتماثيل مكسورة إلى النفق المظلم فى رسائل عبدالحكيم، تلك التى جمعها وبوبها وقدم لها، بإخلاص مشبوب، الشاب صديق نفسه قبل أن يكون صديقنا، جمعها محمد شعير، وجعل العنوان «كتابات نوبة الحراسة»
وهو عنوان مأخوذ من رسالتين، إحداهما إلى إدوار الخراط، يا إدوار أكتب لك من نوبة الحراسة الليلية، والثانية إلى سامى خشبة، يا سامى، أنا أعمل حارسا ليليا فى قصر شارليتنورج، وهو تقليد ألمانى لقصر فرساى، لكنه أى العنوان، مأخوذ أيضا من مناخ الستينيات الذى عششت فى نصوصه الشعرية غالبا، وفى نصوصه النثرية أحيانا نوبات الحراسة، فالعبارة مهنة فى الظاهر، وتاريخ وجغرافيا فى الباطن، ونوبة الحراسة هى الرغبة الحارقة التى اندلعت لتشعل النار فى عمل محمد شعير، بغية استعادة عبدالحكيم من نسيان بليد، نسيان يدل على تفاهتنا أو تهافتنا، كأننا ثيران معصوبة، وكأنه فانوس، كأنه حطاب، الحقيقة أن الحطّاب عبدالحكيم قاسم عندما سمع عن المرأة التى جمالها يجمع جمال زينب زوجته، وحكمت، لعلها أمه، وسامية أخته، وخيرية البشلاوى والشقراء الإفرنجية، المرأة التى لها كل الأسماء دون أن يكون لها اسم واحد، التى تتكلم فى أمور معلقة بجناح طائر أسطورى إذا شئنا، حقيقى إذا شئنا، المرأة التى جالستنى ذات ضحى بكافيتريا إنديانا بالدقى، وكنت أحملق فيها وهى تحكى حكاية الرجل والحصان
الرجل الذى احترم قوة الحصان واستضافها وأضافها إلى قوته ليصبح فارسا، ويصبح حصانه أصيلا، ولم يفكر فى مغالبة الحصان لأنها تعنى الهزيمة، ومثل الرجل والحصان تحكى المرأة عن الشاعر واللغة، فى أثناء الحكايات كانت المرأة تلهث من أعماقها، تلهث وتركض، وأصابتنى العدوى، فأصبحت ألهث وأركض، وأتأمل اللغة تنتصر وتنهزم فى كل آن، مثلها مثل الشاعر، وعلى ضوء شمس المرأة، أو شمس اللغة، رأيت ماكينة طحين قديمة، وعبدالحكيم قاسم يركن صاحبته ويضغطها إلى جدار ويحتضنها وهى متوسدة كفه، ظهر يده يتمزق من خشونة حائط المبنى، بعد قليل يمشى عبدالحكيم وفتاته ويداه ملطختان بالدم، فى روايات عبدالحكيم تظهر بجلاء العلاقة الغرائزية التى أنشأها هو وأغلب قصاصى جيله مع اللغة، لم يعبأوا كثيرا بصحيحها النحوى والصرفى قدر اهتمامهم بصحة مطابقتها للأحوال والمشاعر والشهوات، فجاءت لغتهم جميلة ذلك الجمال الناقص، ظنوا أن الماكياج نحو وصرف، ظنوا أن صحيح النحو حمرة
وأن صحيح الصرف بودرة، ولم ينتبهوا إلى أن دم اللغة يصبح أكثر سيولة إذا سال النحو والصرف، عارفو اللغة من هذا الجيل أقلية، أصابت المعرفة بعضهم بأنيميا الغرائز، أنيميا التجليات الحسية، وفاح وقارهم كعمامة على رأس امرأة عارية، ولأن عبدالحكيم قاسم يحمل عن عمد كل أفراد جيله على ظهره، حسناته حسناتهم، وسيئاته سيئاته، فإنه تجب الشهادة على أن قصاصى الستينيات ظلوا يغسلون دمهم بطزاجتهم، وفى آنات متفرقة كانوا يسمحون لنا بأن نرى دمهم السيّال، ها هو أصلان يوصى بالدقة، والبساطى بغير وصايا يحرص على الكثافة، وها هو عبدالحكيم يتساءل عن الواقع، ما الواقع
ويجيب أن هذه المسألة لم تعد تثيرنى، وأنا لا أهتم، والناس كذلك لا تهتم بذلك أيضا، يقولون فلان قتل فلانا، وذلك ليس واردا على الإطلاق، فكلمة من ثلاثة حروف لا يمكن أن تحيط بفعل القتل، لمدة تزيد على عشر سنوات، أو تساويها، قضى عبدالحكيم سنوات الغربة، ورسائله أيامها، هى فقط رسائل منفى، مكتوبة بروح من يعلم أنها رسائل منذورة للقراءة العامة، لذلك هى رسائل لا يمكن أن تكون خالية من الماكياج
الصحيح أنها مكتوبة فى لحظات ارتدى فيها جلبابه، وانتعل القبقاب، ومشى أمامنا يخبط الأرض، كأنه يظهر بالصورة التى يريد أن نراها، كان عبدالحكيم، وعلى مدى الرسائل جميعا، مثل رجل روسى من جيل دوستوفيسكى أو تولستوى أو تشيكوف، كان شبه محموم أو محموما تماما لحد الهذيان، لحد الإيمان بضرورة الهذيان، وكنت فيما قبل اطلاعى على رواية «قدر الغرف المقبضة»، لا أعلم أننى سأعتمد لفهم حالته على فيلم الطريق إلى الهند، المأخوذ عن رواية «فورستر»، الذى أخرجه ديفيد لين، وأنا بلكنتى هذه، أبدو كأننى أغيظ روح عبدالحكيم
فهو المقيم بألمانيا لم يذكر فى رسائله ما يدل على اهتمامه بآدابهم، ببريخت وتوماس مان وهيرمان هيسه وهولدرلين وجيته، وأنا المقيم هنا، ولا أملك سوى لغتى، أستعين بفورستر وديفيد لين والطريق إلى الهند، حيث البطل الطبيب الهندى يمر بأطوار ثلاثة
أولها انسحاق الانبهار بالغرب، فهو يلبس لباسهم، ويطعم طعامهم، ويمشى مشيتهم، ويعالج مرضاه علاجهم مرضاهم، ويستقبل إحدى أميرات الأسرة المالكة الانجليزية ومعها قريبتها العجوز، يستقبلهما كمفتون، ويطوف بهما ويتودد، حتى نظن أنه يعشق المرأة العجوز، ويصعدون جبلا فوقه مغارة مقدسة، ويرافق الأميرة إلى جوف المغارة، لكنها تخرج صارخة مذعورة تتهم الطبيب بمحاولة اغتصابها، ليبدأ الطور الثانى
طور الانسحاق بكراهية الغرب، يتخلى الطبيب عن أوروبيته، ويعود إلى ملابسه الوطنية وطبِّه وعادات شعبه، ويبالغ فى الازدراء واللعنة، وفى أثناء المحاكمة يقابل أو يتراسل مع محام إنجليزى، ومع نهاية المحاكمة يكون الطبيب فى طوره الثالث، طور النقد المزدوج لثقافته وحضارته، وثقافتهم وحضارتهم، لعل طه حسين هو مثال الطور الثالث، لكن عبدالحكيم قاسم لم يتزحزح عن طوره الثانى، لابد أن هزيمة ما أجبرته على عدم التحرر، على عبودية الرؤيا، لابد أن تطرفا ما ظل يسكنه كل الوقت، ويحركه من النقيض إلى النقيض، من الإخوان إلى الشيوعيين، من الغرب بهيام مكتوم، إلى الغرب بكراهية معلنة، فى رسائله يروى لنا عن أستاذه الألمانى تسلر، يقول: كان يمر على غرفتى كل مساء، ونجلس نتحدث حديثا طيبا، ثم نتبادل قبلة المساء، لم أكن أسيغ هذا، لكنها عاداتهم، ثم عرفت أننى كنت موضوعا لشهواته مدة طويلة، وأن ناجى نجيب متهم بقدر، سأقاطع عبدالحكيم وأعلن إعجابى بكتب ناجى عن يحيى حقى والحكيم ويوسف إدريس، وبكتابه العمدة «كتاب الأحزان»، ولكنه عبدالحكيم هو من سينتقل بروحه وجسمه إلى طوره الثانى، قابلت حكيما ثلاث مرات، فيما أذكر
وكلها استثنائية، الأولى كانت فى الأتيليه، وبصحبته الشاعر محمد صالح، عبدالحكيم يتكلم بحمأة، ومحمد يصمت بحمأة، كان محمد يحيط عنقه برقبة صناعية بيضاء، لعل ذاكرتى تصح، فى المرة الثانى كان يحكى عن ابنته إيزيس التى أمضت طفولتها أو صباها أو أكثر فى ألمانيا، كان يحكى أنها عندما سافرت إلى القرية جلست كعادتها، لكن جلوسها أثار ضيق الفلاحين الذين يحسبون أن المرأة صبية أو عجوزا لابد أن تجلس ملمومة، مضمومة الساقين والفخذين، وابنة عبدالحكيم ساقاها وفخذاها متباعدتان إذا جلست، فى المرة الثالثة، كنا جماعة، عبدالحكيم وسعيد الكفراوى ومحمد سليمان وغيرنا، وكان عبدالحكيم قد تسلم مكافأة نشر بالهيئة، فدعانا إلى كازينو الشجرة، وأطلق نشيده فى مديح الحقد والكراهية، كان طه حسين كارها للبشر، هكذا قال، وبسبب الكراهية حقق ما حققه، كراهيتى للبشر أكبر، وبها سأحقق ما لم يحققه طه، حمّى الرسائل أجبرتنى أن أوقف قراءتى لرسالته إلى بطرس الحلاق، وجعلتنى أفكر ثم أتخيل، فكرت أن الرسائل تشيع بحب أبناء جيله، وأن حدود جيله التى رسمها بأقلامه جميعا، لم تشمل قط بعض أسماء مثل خيرى شلبى ويوسف القعيد وصبرى موسى وغالب هلسا «أردنى».. إلخ إلخ
وتخيلت أن حياة عبدالحكيم امتدت، ووصل معنا إلى أيامنا، وسألت نفسى، هل كانت رسائله الجديدة ستلمس بقاء ما سبق أن احترمه فيهم أيام الرسائل القديمة، أم أن ماكينة الطحين القديمة فسدت وأصبحت تضخ الهواء الضرورى للتواطؤات اللازمة، قلت لنفسى: الأطفال والشباب والمغتربون وعبدالحكيم قاسم هم أجمل الموتى دائما، وأجمل ما فى رسائل عبدالحكيم، أنها ليست رسائل إقامة، إنها رسائل غربة، خرج عبدالحكيم من مصر، وهو عضو فى جيل
وبعد سنوات عاد، ولم يكن أحد أبناء الجيل قد استغنى بعد عن كارنيه عضوية الجيل، ومات قبل انقطاع الحبل، وبعد موته، ولأنهم كانوا قد بدأوا فى الذيوع والتحقق، تفاوتوا وتفرقوا وصاروا أفرادا، عبدالحكيم مات عضوا فى جيل، عاش الآخرون لينفصلوا عنه، يقول عبدالحكيم، الجيل صناعة الوقت الذى وجد فيه، ومارس فيه نيته، توقفت ثانية وأنا أقرأ رسالته إلى سامى خشبة، وتخيلت ما الذى كان عبدالحكيم سيقوله لو زارنا مرة، فاكتشف أنه فى أرض الشتات والنسيان، وأن كثيرين غيره فى الأرض ذاتها، هل سيتعزى ويقول إن الريف الذى لم يعد موجودا تقريبا، والمدينة التى نفقدها يوما بعد يوم أجبرتنا على نسيان الحكيم وحقى ويوسف إدريس وعبدالصبور والطاهر عبدالله مثلا، وأن الكتابة وبعد أن دخلت طوال عقدى الثمانينيات والتسعينيات خيمة الحداثة، وانتشت بأنفاس إداور الخراط ومريديه، توقفت عن التأثير بسبب يأسها من ثقل المعرفة الحداثية
فانتقلت إلى مكان آخر، كان مهملا حتى الأمس القريب، لكن العالم دون أن ندرى، يقول عبدالحكيم، كان يتهيأ له، ويهيئنا، أصبحت الكتابة، هى الكتابة عن كل هامش عن كل عشواء، وأصبح الهامش هو الحصان الجامح الجاهز للسباق، أقمار القرية انطفأت، مصابيح المدينة، لمبة النيون فى غرفة إدوار، انطفأت الحداثة بثقلها المعرفى، وأصبحت ذكرى بعيدة، وأضاءت أنوار عشوائيتنا التى تشبه ما بعد حداثة الغربيين، وأعادت بعث كتّاب وكتبة، كانوا قد مهدوا لذلك دون قصد، ولمع اسم خيرى شلبى، لم أذكره قط فى رسائلى، يقول عبدالحكيم، لمع بشخوصه وأماكنه وشفاهيته، ولمع آخرون يشبهونه
وعلى رف الذاكرة لم يتبق سوى الأدب الكلاسيكى الذى لا نعرف السر فى احتفاظه بالبهاء الخلاب فى عيون كل جيل جديد، حتى إن الروايات التاريخية التى تستحلب مادتها الخام من الماضى، ظلت تحتفظ بمكانتها كفرع من فروع الكلاسيكية، وخلاف ذلك انهزم الجميع، روميش كاد ينتحر بإلقاء نفسه من حالق، وسحر توفيق قلت لكم إننى أتمنى أن تعرف طريقها للنضج، لكن سحر غادرت العمر الذى يجتذب النقاد، الهامش يستمد قوته من هنا، ومن هناك من تفاهته ومن تفاهتنا، من السلطة ومن نقيضها، عشت طويلا، ولم أعرف شبيها لما أراه، خرجت من خيالاتى، أنا عبدالمنعم كاتب المقالة، وتذكرت أن عبدالحكيم لأنه قروى، كان يصرح قبل بلوغه الخمسين بأنه عاش طويلا
ربما أيضا لأنه من زمن أبيه، كأنه هو، كأنه أبوه، وهأنذا، على طريقته أرتاب فى الآخرين، وعلى طريقتى، أرتاب فى نفسى، وأقارن بين غربه وغربى، وأقول معه، وأقول ضده، كنا نحن والغرب مختلفين فى حدود، متفقين فى حدود، كنا أصحاب خصوصيات، وكانوا أصحاب خصوصيات، وفجأة أصبحنا كلنا مخلوطين مثل موسيقى الكازينو، فغلبت خصوصيات الأقوى على خصوصيات الأضعف، وبدا الأمر كأنه لا خصوصيات ولا عموميات، كأنه فراغ شامل يحتاج للملء بكل شىء وأى شىء، ليس هناك ما هو نبيل أو حقير، ما هو أعلى أو أدنى، ليس هناك أحد فى نوبة حراسته
وأصبحنا نظن أن هذا التحول نهائى، أنه أبدى، فتراجعنا عن مواجهته حتى لا نصبح خارج الوقت، حتى لا نصبح الغرباء، ويظن الكبار منا أنهم يجندون الشباب بالجوائر والمدائح والأسفار والرتب، ويوقن الشباب أنهم يجندون الكبار بإدخالهم فى الفراغ المسكوت عنه، بإدخالهم فى ثقافة البرابرة التى تسود وتطيح برءوس الجميع، وتريح السلطان وحريمه وعبيده وجواريه، الأمريكيون والأوروبيون فوكنر وهيمنجواى وويتمان وملفيل وفيتز جيرالد وأونيل وإليوت وإدجار آلان بو وشتانيبك وتنسى وليامز وآرثر ميلر
أصبحوا ماضيا أوروبيا غير قابل للتكرار، الأمريكيون الأمريكيون يجتاحون ببربريتهم بيوتنا وجلودنا، ويدعوننا إلى التعلق بهم، وكل منا يسعى كى يجد مكانا فى قلوبهم، نحن محبوطون على رءوسنا بذلك التاريخ العام، فيما الأدب تاريخ خاص، ولكنه للأسف محكوم بأن يحيط بذلك العام، المغول الأمريكان يفعلون الآن فى ظل استحساناتنا، ما فعله المغول المغول فى ظل استهاجاناتنا، على طريقتى، رأيت عبدالحكيم يعيش المحنة كلها، ثم يقوم ويغمض عينيه ويسلم نفسه للطريق حتى يعود إلى قريته البندرة، أو إلى القبر مثواه الأخيرة، لما قرأت أيام الإنسان السبعة أول مرة، ذهبت مذهولا مسحورا إلى أحمد طه، فوجدته كذلك، ولما قرأت المهدى فى مطبوعة عبدالعزيز جمال الدين، ذهبت إلى أحمد ثانية، فيما بعد قرأت المهدى مشوهة بمقدمة بارزة مثل بوز فأر لا نهاية لطوله إلا عند الصفحة الثامنة والخمسين، أحسست باستحلال الموتى، بترويضهم، أحسست بفداحة السحر الضائع، لأن أحد كهنة النظام أراد أن يقدم أوراق اعتماد جديدة، فاصطاد المهدى من سمائه، وذبحه ليكلمنا عن التعصب والتسامح واستعادة لوازم الإسلام الذى يدعو إلى المجادلة بالتى هى أحسن، عند المقدمة شعرت أن المهدى بوق رخيص لن يقربه أحد إلا إذا كان نجسا، أهملت المقدمة ونسيت صاحبها، ففوجئت بسماعى لصوت الناى الحزين الذى نجَّره عبدالحكيم من نباتات قريته، ومن شرايينه المقطوعة، يحذرنا عبدالحكيم أكثر من مرة، ويقول لنا، الفن الشبيه بالحياة، هو أقل الفنون حديثا عن الحياة، يحذرنا ويقول: الأدب ليس صورة الواقع، ولا تشبيها له، بل هو جدل معه، الأدب ليس حماسة للفقراء، إنه حماسة للحياة، لها أو عليها، والفن ليس الحياة، بل هو محاولة لمعرفتها، محاولة تستقل بذاتها لتتحول إلى قطعة عمل جميلة، وهأنذا فى الستين، أكبر من عبدالحكيم بسنوات أربع، أتخيل أنه يمشى وعلى ظهره مخلاته، يضخ المخلاة على الأرض، ويجلس على قهوة، ربما فى عابدين، ربما فى السيدة زينب، ربما فى الطريق العام، ويجلس على المائدة الأولى قرب الباب، وأمامه جامع رسائله، وأمامه أيضا المرأة التى هى خليط من زينب وحكمت وسامية وخيرية البشلاوى والإفرنجية الشقراء وعلى المائدة المقابلة يجلس بمفرده عادل فيليب، أما أنا، فسوف أقوم بدور النادل، ودون طلب سأحمل المائدة الأولى قرب الباب إلى المخزن، وآتى بحصيرة أو سجادة يدوية، سيجلس الاثنان عبدالحكيم والمرأة دون قلق، ويذعن لهما جامع رسائله، أما عادل فيليب فأظنه سيظل فوق كرسيه عند المائدة المقابلة
وفيما أتحرك حاملا صينيتى أسمع صوت عبدالحكيم يقترح على جليسه: لماذا لا يا محمد لم تنشر رسائلى مرتبة بحسب تواريخها لا بحسب الأشخاص، فالترتيب التاريخى يحفظ لها قوامها وقامتها، وبعد صمت: يا محمد إننى أعتذر مقدما وأرجوك أن تعتبر ما أقوله نوعا من حرص الصديق على أن يكون ما يكتبه صديقه على درجة من الكمال لا يطولها الانتقاد، أعرف أنك تعرف أن كتابك كتاب مفتوح، يتجدد ويتسع وتدخله رسائل أخرى مع كل طبعة، ولكننى تمنيت لو أن رسالتى إلى سمير سرحان التى أطلب فيها أن يرفع أجرى عن أيام الإنسان السبعة المترجمة إلى ألف جنيه
وأن يتم الصرف بسرعة، لأننى محتاج، وأنت قاضى الحاجات لى، تمنيت، لو أنها لم تكن فى المقدمة، لو أنها كانت هامشا داخل الكتاب، هى حقيقية، ولكنها حقيقة باطلة، مكانها البارز يجعلنى وأنا فى قبرى أنشع بالعرق، أسمع صوت عبدالحكيم يقول للمرأة: كفى عن النظر إلى ذلك الرجل الجميل، ثم يميل على جليسه ويقول له: أرجوك يا محمد اسأل النادل عن اسم ذلك الرجل، هل قال لك اسمه، إنه مسيحى إذن، هل هو قريب لناجى نجيب أو لويس عوض أو ماهر شفيق فريد أو ألفريد فرج، أو حتى لإدوار الخراط، إذا لم يكن قريبا لأحدهم، سنقضى كل الوقت الباقى لنا هنا، لأن نظرات النادل تدل على أنه يعرفنى، وأنه يحبنى، إلا أنها تدل أيضا أنه يحب ذلك الرجل الغريب، أرجوك يا محمد، اطلب من النادل أن يجلس معنا، احذر أن تلح عليه فتضايقه، ولا تسأله عن اسمه، سأعرف اسمه بنفسى، فأنا أعرف المحمومين، والنادل شبه محموم، أو محموم تماما، محموم لحد الهذيان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.