مدحت العدل هل الثابت من الأمور هو ما يعتبره عامة الناس عقلا وحكمة واتزانا واتساقا مع المزاج العام؟! وهل المتغير والمتمرد والخارج عن المألوف هو فى نظر معظم الناس جنون يستحق العلاج وقلة أدب تستحق العقاب؟! أظن أن العقلية الجمعية للبشر، خصوصا فى بلادنا السعيدة، تؤمن بذلك أشد الإيمان.. وبقليل من التفكير واستعراض الأمثلة من التاريخ الإنسانى، سوف نكتشف أن كل ما صنع تقدما أو حضارة أو فنا أو متعة جاء من هؤلاء الذين يعتبرهم «العقلاء» مجانين.. فجميع الأنبياء -بلا استثناء- بما نادوا به فى ظل مجتمعات ثابتة ومستقرة هم فى عرف تلك المجتمعات مجانين، بل أطلق عليهم ذلك بالفعل.. فالذى يظل أعواما عديدة يصنع سفينة تحسبا ليوم يغرق فيه العالم لا بد وقد نعته قومه بالجنون، وأولهم ابنه، والذى حذر قومه من ذبح الناقة، حتى لا يطولهم سوء المصير، هو فى رأى قومه مخبول.. ولم يسلم نبى من أول إبراهيم حتى محمد «صلى الله عليه وسلم» من هذا الاتهام.. إذا مشيت جنب الحائط فأنت أعقل العقلاء، وإذا حاولت أن تقفز فوقه لترى الدنيا التى تضج بالحياة فأنت ممسوس يجب أن تذهب إلى المصحة.. ولتتخيلوا معى تاريخ الإنسانية دون هؤلاء الأنبياء.. دون نيوتن، الذى بدلا من أن يأكل التفاحة التى سقطت عليه «ككل العقلاء» اكتشف قانون الجاذبية كمجنون.. دون أرشميدس، الذى فضل اكتشاف قانون الطفو على أن يستمتع بحمام دافئ وهو يستمع لرائعة عبد الوهاب «الميه تروى العطشان وتهدى نار الحران». تصوروا معى طعم الدنيا دون «ألف ليلة وليلة»، وعبقرية سرفانتس وهو يترك للتراث الإنسانى «دون كيشوت»، وبتهوفن وسيمفونيته التاسعة، ومايكل أنجلو وتماثيله التى تكاد تنطق، وجاليليو الذى أحرقوه من أجل الحقيقة. تخيلوا طعم الحياة فى عالمنا العربى البائس دون «النبى» لجبران، و«اللا أدريات» لإليا أبو ماضى.. تصوروها لو لم يمس جنون العبقرية سيد درويش فينشد «الحلو دى» و«زورونى» و«بلادى بلادى».. لو لم يأت المبصر عقلا طه حسين بكتابه الرائع «فى الشعر الجاهلى»، ولو لم تغنِ أم كلثوم وعبد الحليم والقيثارة «فيروز»، ولو لم يلحن القصبجى وبليغ والطويل... إلخ. ألا تروا معى أن الحياة كانت ستصبح لا تُطاق وشديدة الكآبة (هى أصلا كئيبة)، وكيف كنا سنتحملها أصلا؟! فنحن نعيش بهؤلاء المجانين، يمدوننا بشذرات عبقرياتهم فنحس بأن الحياة تستحق أن تُعاش. صديقى القارئ.. فى داخلك مجنون متمرد، لا تعبأ بأحد وأخرجه شعرا.. نثرا.. صنعة يدوية.. هذا الجنون هو أجمل ما فيك، وإذا لم يتعوده الناس اليوم أو استهجنوه فسوف يعرفون قيمته غدا، وستكسب أنت بهجة الحياة. لى كوبليه فى أغنية «آيس كريم» يقول: «أنا مش مألوف إمبارح، لكن للجاى مألوف، وف قلبى الورد الطارح، من غير أشواك ولا خوف، وحاعاند أيوه حاعاند، دايما من غير تسليم».. تمرد.. فالحياة تستحق.