لا يمكن فهم الظاهرة الداعشية، أو ما يمكن أن نطلق عليه «الداعشيزم»، دون أن نربطها بجذور الفوضى فى كتابة التاريخ الإسلامى، التى يختلط فيها الدين بالسياسة على نحو عجيب، دون أن نجد مَن يجرؤ على القول بأن ما فى هذه الكتب، ليس سوى سياسة تستخدم الدين، وتوظّفه للوصول إلى السلطة، الكل استخدم الدين فحدثت الفتنة التى كادت أن تقوّض الدولة بأكملها، حدث ذلك فى الماضى، وما الداعشية الجديدة سوى تنويعة معاصرة على ما كان. ولا يمكن فهم الداعشيزم أيضًا دون الرجوع إلى التفسير النفسى، هناك نوع من الاستعداد لممارسة العنف واعتناق التعصُّب، كنت وما زلت من أنصار الذين يعتقدون أن التعصُّب وممارسة القتل انحراف نفسى وسلوكى قبل أن يكون رد فعل على مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، التعصب استعداد يبحث عن موضوع قد يكون الدين أو الرياضة أو حتى الفن، الأمر يحتاج فعلًا إلى دراسة أعمق بدلًا من هذا الاستسهال الذى يربط كل تعصب وتطرف بمجتمعات مستبدة وفقيرة، وتعانى من انعدام العدالة الاجتماعية، لا يفسر ذلك على الإطلاق وجود 3 آلاف مقاتل أوروبى وسط صفوف «داعش»، ولا يفسر حتى ظهور الجماعات الإرهابية الأوروبية الشهيرة مثل الألوية الحمراء وبادر ماينهوف، وكلها خرجت من قلب مجتمعات ديمقراطية، تتاح فيها حرية التعبير والتمثيل البرلمانى. فى ما يتعلق بالإسلام والمسلمين هناك بعض الخصوصية إضافة إلى عنصر الاستعداد النفسى، إنه هذا الجمود فى الاجتهاد، وتلك الخلطة التى ترتفع بمستوى الاجتهادات الفقهية القديمة إلى حد التقديس، وكأن قائليها يشرِّعون ولا يجتهدون، وكأنهم جميعًا لا يمكن أن ترد عليهم شيئًا مِن هذا الكهنوت الذى يرى فى التراث خيرًا مطلقًا، والذى يطارد القراءات والاجتهادات العصرية تحت لافتة «البدعة»، خرجت «الداعشيزم»، أساسها ادعاء اليقين المطلق، وليس اختبار الصواب والخطأ، ووسيلتها استخدام الدين لتسويغ القتل والإرهاب، وغايتها التمكين لفاشية دينية لا تختلف فى جوهرها عن أنواع الفاشيات الأخرى. الداعشيون نفذوا من ثغرة خلطة الدين والسياسة التى كتبت بها صفحات التاريخ الإسلامى، لا تعرف بالضبط حدود الممارسة الدينية والسياسية، اختلطت الدعوة بالحروب، والصواب بالخطأ، وامتدت مظلة التقديس وحدود الخطوط الحمراء لتمنع مناقشة أو انتقاد أى سلوك بشرى يستحق المراجعة، لم يتوقف أحد ليحدد المفاهيم والمصطلحات، مع أن التاريخ فى النهاية ليس سوى تصرفات بشرية لها وعليها، لم يناقش أحد الأفكار التى صنعت الفتن والكوارث، ولم يحدد لنا لماذا ينحاز التاريخ إلى أسماء بعينها، مع أنها سلكت نفس سلوك أشخاص آخرين، يعتبرهم نفس التاريخ، من المغضوب عليهم، ومن الضالين. لو قال التاريخ بصراحة إن الرسالة السماوية قد اكتملت بوفاة الرسول الكريم، وإن كل ما حدث بعده هو اجتهادات بشرية فى ممارسة السياسة والسلطة والحكم، وإن فكرة الخلافة ليست أصلًا من أصول الدين، وإنما هى اجتهاد بشرى بحت، وإن الرسول مات دون أن يستخلف أحدًا تاركًا للجميع حرية الاجتهاد، وإن الدين لا يحتاج إلى سيوف كى ينتشر، ولكنه يحتاج إلى عقول وقلوب، بدليل أنه انتشر فى جنوب شرق آسيا دون حروب ومعارك ارتدَت ثوب الدعوة، لو قال التاريخ ذلك، لاتضحت الأمور. لو وضعت كتب التاريخ خطوطًا فاصلة واضحة بين السياسى والدينى، لما عاد الخوارج فى طبعة جديدة، ولما أصبح فى الإسلام كهنوت، بينما هو الدين الذى رفض الكهنوتية، والذى لم يجعل وسيطًا بين العبد وربه، لم يتجدد الفكر بما يعيد إلى الدين جوهره، وبما يفتح باب المناقشة والنقد لكل ما جاء فى التراث من أمور كتبت لخدمة صراع سياسى دموى كارثى لا علاقة له بالدين، ولكن كانت علاقته الواضحة بالصراع الدنيوى على السلطة. لدينا حصاد مأساوى لما فعله استغلال الدين فى مجال السياسة، وحصاد أسوأ فى تبرير العنف والقتل، ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة قُتلوا، وكان الدين ما زال حيًّا فى القلوب، حروب الفتنة المستترة وراء الدين كادت أن تقضى على حفّاظ القرآن الكريم، الصراع على السلطة، واستخدام الدين كغطاء كان وراء مجازر العباسيين ضد الأمويين. «الداعشيزم» فى الأساس ثقافة للموت، تنفى الآخر، تريد أن تُبِيده، تحتكر الصواب، وترى أن الحرب وسيلة لنشر الدين، والدفاع عنه، مع أن مشكلة المسلمين ليست كما أتصور فى أن تكون لهم دولة، وإنما فى أن يستعيدوا دورًا حضاريًّا انتهى تمامًا، نحن تقريبًا خارج التاريخ، لو قاطع العالم الإسلامى الغرب لما وجد طعامًا أو عملاً أو حتى وسيلة لاستخراج النفط، مستويات الفقر والجهل والمرض مفزعة، والتاريخ ما زال يحدّثنا عن أمجاد لا نجد لها أثرًا فى الحاضر. لا يمكن القضاء على «الداعشية» إلا بدراسة نفسية تفسِّر وتحلِّل هذا الاستعداد للعنف والقتل والتعصب سواء باستخدام الدين، أو باعتناق أى أفكار أخرى، ولا يمكن أن نأمَن ظهور داعشيين فى كل زمان ومكان، إلا بكتابة جديدة للتاريخ، كتابة مستنيرة تعرف جوهر الدين وتفصله عن قشوره، كتابة جريئة وشجاعة لا تستثنى التصرفات البشرية من الأسئلة والمناقشة، كتابة نقدية تفرق بين النص المقدس واجتهادات البشر حوله، دون ذلك سنخرج من داعش لنقع فى مئة داعش جديد.