فى قصة الأديب العالمى تشيخوف «الكافى» يسير سيرجى بطل القصة ليلا وينظر للسماء ويسب الله ولما سألوه: لماذا؟ قال: كنت أتمنى لو أكيل الشتائم لصاحب البيت وصاحب العمل وصاحب المخبز والبقال ورجل الدين لكنى أخافهم جميعا.. قالوا: أتخاف الناس ولا تخاف الله؟ قال: الله يفهم لكن الناس لا يفهمون! ولما سألوه: ولماذا تخاف رجل الدين؟ قال: لأنه لم يمنع صاحب البيت ولا البقال ولا الخباز من اضطهادى وقال أيضا: أفضل أن أعيش فى بلاد لم يولد فيها رجال دين بعد. الكلمات السابقة هى ملخص معبر جدا لفكرة كتاب «السلفيون أيضا يدخلون النار» «قراءات فى فكر التطرف وفقه التكفير» الجديد للزميل وليد طوغان الصحفى بصباح الخير الصادر مؤخرا عن دار صفصافة فى أكثر من ثلاثمائة صفحة وفى ثلاثة عشر فصلا تؤصل فى لغة بسيطة وجذابة للتغيرات التى شهدها الشارع المصرى منذ الثمانينيات وحتى الآن فى علاقته بالدين والازدواجية المتناقضة فى علاقة المصريين بدينهم والاعتماد على الطقوس أكثر من المضمون والاحتفال باللفظ أكثر من المعنى والتدين الظاهرى مقابل عدم الاستقرار والانفلات الاجتماعى والأخلاقى الذى يسيطر على سلوكهم فمقابل زيادة الحجاب وختم القرآن فى رمضان والتهجد أيضا نجد زيادة فى نسب التقاضى بالمحاكم وجرائم السرقة والقتل وقطع الطرق.
والأزمة ليست حديثة ولا ترتبط بظهور السلفيين القوى على سطح الأحداث بعد ثورة يناير وإنما يعود إلى توقف المسلمين عن الاجتهاد بعد القرن الرابع الهجرى واستمر الحال كذلك حتى أن المصريين بعد دخول نابليون بونابارت مصر واقتحام الأزهر خافوا على كتب الحديث وبالذات البخارى أكثر من خوفهم على القرآن، وبمرور الوقت تحولت «السنة النبوية» إلى أساس الدين مع أنها فى علوم الفقه الإسلامى لم تكن المصدر الرئيسى فى التشريع ودخلت السنة أحاديث نبوية كثيرة مشكوك فى صحتها ونسبتها للرسول وإلصاقها بصلب العقيدة رغم مخالفتها للمنطق والعقل، وبمرور السنين أيضا حول التراث القصص والأخبار غير المؤكدة إلى مسلمات لا تحتمل التأويل أو الرفض فانتشرت سنن عززت الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين وتداول المسلمون أوامر «نبوية» أسست عنصرية وظهرت فيما بعد طائفة «المشايخ» و «الدعاة الجدد» فقالوا فى الحلال والحرام وفصلوا الدين على أهوائهم وخدموا دينا عصريا يتمسك بالقشور على حساب جوهر العقيدة ووجدنا أنفسنا نتحدث عن أحاديث فضل الذباب ومكارم أكل البقدونس وفوائد بول الإبل نهاية بارتداء الجلابيب والتمسك باللحية وتكسير التماثيل وأصبحنا أمام أزمة اجتماعية شديدة زاد نيرانها مشايخ الفضائيات الذين اختزلوا الإسلام فى أحكام جماع الرجل وزوجته وأدعية دخول دورات المياه وتفسير الأحلام بكتاب الله، وتركوا الحقوق والمعاملات وركزوا على العبادات فقط، كل هذا تم فى غياب المؤسسة الدينة الأولى «الأزهر» لتترك الساحة كاملة أمام السلفيين وشيوخ القنوات الذين تحدثوا فى كل شىء من السياسة إلى الاقتصاد ونسبوه للدين زورا، والسؤال الذى يطرحه الكتاب: ما الذى قدمته جماعات الإسلام السياسى كى يدعوا أنهم الأولى بإقامة دولة الدين وأن على المسلمين فريضة أن يرتضوا بهم وكلاء لله؟
والإجابة أنهم قدموا كل ما ينبغى معه فصلهم عن إدارة الدنيا قبل سحب ولايتهم على الدين الذين طوعوه لما أرادوا من حكومة وسلطة وادعوا أنهم حراس الدين بأوامر قالوا إنها من عند الله فى حين أنهم أى السلفيون جمدوا الإسلام بعد أن رجعوا به إلى الخلف ثم علبوه وقالوا إنهم احتكروا ماركاته وخلطاته بسيرهم على خطى السلف الصالح رغم أن السلف الصالح لا أمروا ولا شهدوا.
والسؤال الثانى المهم هو: هل يمكن للسلفية إصلاح الدين وتجديد خطابه ومن ثم إصلاح الدنيا حسبما أراد الله؟ والإجابة أن السلفيين يحرمون الفصل بين الدنيا والدين ويخرجون المعارضين من الملة وكل محاولاتهم على مر التاريخ للانخراط فى المجتمعات الحديثة باءت بالفشل لأن خطاب أهل السلف واحد «جامد» بينما خطابات مجتمعات العلم والاجتهاد واسعة حرة، لا الدين فيها حكرا على أحد ولا الإسلام قائماً فيها بأحد ولا قائماً لأحد، وخطورة السلفيين أنهم جمدوا الدين واحتفظوا به فى ثلاجات التاريخ لتفسد المواد الحافظة إسلامهم مع أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الدين إلا لصلاح المجتمعات، وصلاحها لا توجد أدواته فى (ثلاجات) التاريخ ، والغريب إصرارهم على العودة بالدين إلى الوراء وتقليد السلف الصالح ومحاكاة زمانهم بزماننا رغم تغير الظروف واختلاف البلاد وتلون العبادة ، وهم -أى السلفيون - مقلدون، تراثيون مع أن الدين تقدمى ، والله يدعو فى كتابه للذين يتفكرون .. ولكن السلفية لا يفعلون.
والسلفية تعنى - لمن لا يعرف - ضرورة العودة إلى نهج الصحابة والتابعين وتابعى التابعين فى أصول الدين والمعاملات ، ومكمن الأزمة ومحل الخطورة فى إصرار التيارات السلفية على الاعتقاد فى توقف الاجتهاد فى فهم الدين وتأويل نصوصه ومعرفة علل آياته، ويصرون على أن اجتهادات الأوائل فى التفسير والمعاملات هى الدين مع أن هؤلاء السلف الصالح كانوا بشرا وما سنه البشر ليس مقدسا لأن المقدس يأتى من عند الله مهما طال على وجوده الزمن، واعتبار سلوك السلف مرادفاً للإسلام يعنى تحويل الإسلام إلى تراث والإسلام ليس كذلك، وكتاب الله ثابت نصه منذ عصر السلف إلى الآن بينما المتغير هو تفسيرات السلف له واجتهادهم فيما يرون.. وفى النهاية نحن أمام أصحاب مدرسة التقليد فى مقابل أصحاب مدرسة الاجتهاد.. والخطورة أن الصدام بين أهل السلف ومجتمعاتهم - كما يبين الكتاب - حتمى لأنه لا سبيل لقبول السلفية بالتجديد فى السياسة أو استيعاب الآخر ولا سبيل لإقناعهم بهذا ولا ذاك، وجمودهم فى السياسة هو نفس جمودهم فى الدين.
وهذا يفسر لنا إصرار السلفيين على الإتيان بأفعال تخالف تقاليد وأعراف المجتمع المصرى مثل الإصرار على ارتداء زى معين وتحطيم التماثيل فى أكثر من مكان.
واللافت أن معظم السلفيين يأخذون بالكثير من فقه «ابن تيمية» المتشدد بينما للإمامين الشافعى وأبو حنيفة آراء فى المسائل نفسها أيسر وأكثر ملائمة للدين والدنيا من دون الخروج على شرع الله .. وهم كما يقول المؤلف مؤمنون لا جدال، لكن الذى لا جدال فيه أن أغلبهم ليسوا مجتهدين ولا مفكرين ويصرون على رفع اجتهادات الأوائل إلى مراتب التقديس مع أن مفكرا عظيما مثل الشافعى عدل فقهه بعد انتقاله من العراق لمصر لأن العرف فى العراق كان مخالفا لأعراف المصريين ولذلك بدل اجتهاده ونقض بعض آرائه الشرعية القديمة !
والأقباط مثلا فى نظر السلفيين مخالفون لمبادئ العقيدة والمعنى أن حقوقهم سوف تكون منقوصة، وفى فقه السلفية لا تصلح ولاية المرأة ولا تجوز ولاية غير المسلم على المسلم ولا يجوز اتفاق الأغلبية على ما يخالف اجتهاد مشايخ السلف فإن حدث يجوز الخروج على الحاكم بالسلاح ويرفض السلفية علمانية الدولة ويرون أنها إلحاد رغم أن العلمانية تعنى فصل إدارة الدولة عن شئون الدين كفا للصراع بين مختلفى الديانة فى الوطن الواحد، والسلفية لا يؤمنون بأن الدين لله والوطن للجميع وبعضهم مجنى على عقولهم وظلمهم الذين أخرجوهم ولهذا فالسلفية ليست هى الحل لأزمات القرن الواحد والعشرين مثلما لم يكن عمرو خالد وخالد الجندى وعمر عبدالكافى هم الحل لأزمات الشباب المصرى فى تسعينيات القرن الماضى وبعد يناير اختفى الدعاة الشيك وظهر الطغاة فهب وتسيد الموقف الحوينى وحسين يعقوب وشومان، والنوعان لم يكونا مجددين وإنما لعبا على قصص التراث والتفسيرات الكارتونية لآيات الله وأغرقونا فى التفاصيل وقشور الدين القيم، والخطورة فى السلفيين بعد الثورة أنهم اختاروا الأغلظ والأشد والأكثر ميلا للتطرف والعسر واستطاعوا قلب المجتمع رأسا على عقب والأخطر لم يأت بعد!
ويدلل المؤلف على تشدد السلفيين ومخالفة أصحاب الآراء المعتدلة بعشرات من الأمثلة مثل قضايا تعدد الزوجات وتكفير القرآنيين الذين يطالبون بتنقية السنة من الخزعبلات وما هو ليس مؤكدا عن الرسول والإصرار على تقديس كتب التراث التى كتبها بشر بعد وفاة الرسول بسنوات كثيرة وقضايا النقاب وتفسير الأحلام بكتاب الله ، والربط بين نظريات العلم وآيات الله واصرارهم أيضا على عدم الفصل بين ما هو «إلهى» وما هو من عند أنفسهم ويستشهد المؤلف بوقائع عديدة لمشايخ السلف الذين يرفضون التطور والاجتهاد فى زمننا ويحاولون إلباس الدين العظيم بالخرافات والخزعبلات من قصص التراث والبعد عن استخدام العقل والنقد والارتماء فى أحضان المسلمات التراثية الدخيلة فى معظمها على الإسلام والتى وضعها أناس لا يُثق فيهم.. ومنها قضايا الرقية الشرقية وكونها علاجا ربانيا للأمراض النفسية، وهل مباح الضرب فيها أم لا، وتفسر الأحلام بالسنة وآيات الله !
وفضل دعاء العنوسة على زواج العوانس، واختزال الدين الواسع غير المحدد فى موضوعات ضيقة محدودة مثل هل العمرة فرض مثل الحج، والجهاد فى الإسلام فى العصر الحالى مما وضعنا فى موقف حرج أمام العالم كله بسبب أن مشايخ السلفية أخذوا من ابن حنبل تشدده ومن ابن تيمية تصلبه فحولوا الدين إلى إسلام مظهر يقوم على الطقس ويكره الآخر ويعادى المختلف معه فى الرأى، وساعدهم على ذلك نهم الفضائيات وإصرار أصحابها على تحويل الدين لسلعة وعرض وطلب. وشكلنة الإسلام والحرص على الإطار بدلا من الجوهر وهو ما وجد صدى عند المصريين الذين يتعاملون مع كلمة «شيخ » بحساسية ودرجة تقبل غريبة!
والنتيجة التى وصلنا إليها أن هؤلاء المشايخ الذين لا يبغون سوى الشهرة والفلوس أبهروا الشارع بالحديث عن الدين فارتفعت أرصدتهم وزادت شهرتهم واستطاعوا أن يكسبوا تأييد الشارع المسلم بأفكار التقرب إلى الله والجهاد فى سبيل الله ومرورا عشرات الحكايات والأفكار المتشددة التى وجدت طريقها إلى أرض الواقع وأصبح لهؤلاء المشايخ أتباع وأنصار ومريدون وانتهت فكرة الانتماء للوطن بعد أن فتتوا المعنى لنصبح أوطانا متعددة، فهذا إخوانى وهذا سلفى وثالث جهادى ورابع أصولى وكلها أوصاف خطيرة قد تؤدى بالمجتمع إلى صدام وصراع يطال الجميع، خاصة بعد الثورة التى استغلها السلفيون وغيرهم ليتصدروا المشهد على حساب الآراء المعتدلة وعلى حساب الأزهر نفسه.
∎ كتاب «السلفيون يدخلون النار أيضا» صرخة تحذير وخوف على الوطن من العابثين باسم الدين الذين لا هم لهم سوى إسقاط هذا الوطن المعتدل والمتدين تدينا وسطيا، والكاتب لا يهاجم أحدا إنما يحاول تسليط الضوء على ما يحدث خوفا على مصر التى هضمت كل أفكار الغزاة والمستعمرين واختارت دينها الوسطى بعيدا عن التطرف والتشدد ولذا وجب التنبيه، ولكن هل من مخرج ؟!