بقلم: وليد طوغان والسلفيون لا يجتهدون . أو قل إنهم لا يفعلون إلا في حدود اجتهادات المسلمين الأوائل، مع أنه يجوز لهم الاجتهاد وفقًا لظروف العصر، وتغير الأحوال، والثقافة. أكثرهم يأخذ بالكثير من فقه "ابن تيمية"، بينما للإمامين "الشافعي" و"أبو حنيفة" آراء في المسائل نفسها أيسر حلًا، وأكثر ملاءمة للدين والدنيا من دون الخروج على شرع الله.
يرى معظم "أهل السلف" أنهم يعملون شرع الله، وهم الذين ينزلون حكم الله، وهم وحدهم الذين يقيمون حدود الله.. مع أن هذا غالبًا ليس صحيحًا ، اذ ان الاسلام نزل للناس جميعا ، وكان رحمة للعالمين ، ليس رحمة لأصحاب الذقون والمنتقبات .
يُروى أن رسول الله (ص) سأل أحد ولاته في الطريق لإمارته: بمَ تحكم؟ فأجاب: بكتاب الله، فقال (ص): وإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله؛ فقال (ص): وإن لم تجد؟ فأجاب الوالي: أعمل حكم الله فيهم ؛ فقال النبي: لا؛ بل اعمل حكمك أنت واجتهد، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم.
لا أحد يعرف للآن كيف يريد شباب السلفية إنزال حكم الله.. في أرض الله، رغم تغير الظروف، وشيوع الثقافات، ورغم الأدلة الفقهية التي ضبطت كثيرًا من القواعد؛ فلا التفتوا إليها ولا اجتهدوا معها؟
هم مؤمنون لا جدال؛ لكن الذي لا جدال فيه أن أغلبهم.. ليسوا مفكرين ولا مجتهدين. لذلك لم يخلُ تاريخ السلف من عواصف فكرية ، بدءًا من مآخذ الصحابة على "عثمان بن عفان" ولايته لأقاربه، وإرجاعه "العاص بن وائل" للمدينة بعد وفاة النبي، مرورًا بمناقضة السيدة "عائشة" ل"ابن عباس" في فقه الزواج، وانتهاء باشتداد "عمر بن الخطاب" على "أبي هريرة"؛ حتى قيل إنه ضربه لكذبه في الحديث النبوي.
تاريخيا ، لم تستطع التيارات السلفية التجاوب مع الظروف ، والمتغيرات . ورغم تطورات كثيرة فى فلسفة الدين ، وتنوع مدارس تخريج الاحكام ، بعد تنوع مشاكل المسلمين ، وتخطيها احيانا كثيرة ، خطوط التشريع ، ما جعلها ، فى حاجة الى تشريع جديد ، او مزيدا من الاجتهاد ، فى التشريعات القديمة .. ظلت الأصولية الاسلامية على ما هى . وظل السلفيون "دوجماتيك" . ماذا تعني "دوجماتيك"؟ تعني احتكار الحقيقةً، أو الإيمان بالحقيقة الواحدة، أو الحقيقة الإلهية من وجهة نظر واحدة وحيدة.. وجهة نظرهم هم، باعتبارهم هم وحدهم أهل الله .
فكعادة الأصوليين؛ لدى السلفية يقين غير مبرر بأنهم هم وحدهم أحباب الله، وأن الحقائق الإلهية تبدأ وتنتهي عندهم . لذلك؛ فعندما يدخل الأصوليون أرض السياسة مثلًا، فإنهم لا يدخلون للتفاوض والسجال، وفق ما تحتمه عليهم ملاعب السياسة، وأساليبها، إنما يدخلون للسيطرة وفرض الرأي؛ تأكيدًا لاعتقادهم في مصدر آرائهم الإلهي.
الأصولية الدينية هي الدعوة للعودة بدول العصر الحديث إلى ما كانت عليه عصور الديانات الأولى، بصرف النظر عن تغير الظروف، وتبدل الأزمان.
لذلك ، فان رغبة الأصوليين مثلًا في الاشتغال بالسياسة؛ كانت معضلة من معضلاتهم الملحوظة في العصر الحديث، فالسياسة متغيرة، والدين ثابت، والسياسة متلونة؛ بينما لا يقبل الدين التلون أو التغير. السياسة هي فن تحقيق الممكن، والمتاح؛ بينما لا يقبل الأصوليون في الدين بغير إعمال النص، وبعضهم يختلف في التأويل؛ فيتقاتلون على مجرد الاختلاف!
سأل عمر بن الخطاب ابن عباس ذات مرة: على ماذا يختلف المسلمون بعدنا، فكتابنا واحد، ورسولنا واحد؟ قال ابن عباس: سوف يجيء قوما بعدنا، يقرأون القرآن، ولا يدرون فيما نزل، فيؤولونه، فيختلفون على تأويله، ثم يقتتلون على ما اختلفوا فيه. تاريخيًا؛ كان معظم أزمات التاريخ بسبب تأويلات الأصوليين للنص، والاختلاف على محددات التأويل في تسيير أمور الدول . فعندما تداخلت السياسة في الدين، قاتل الأصوليون المسلمون بعضهم على الاعتقاد، وقاتل الأصوليون المسيحيون أبناء دياناتهم على الهوية، كما قاتلوا بعضهم على الرأي.
لذلك؛ كانت الدعوة لإخراج السياسة من الدين وجيهة، ولم تكن الدعوات لفصل الدين عن السياسة ضد الدين؛ إنما تحرير له من منغصات السياسة؛ فالدين سماوي، والسياسة دنيوية. ثم إن مبادئ الدين واحدة؛ لكن مبادئ السياسة متغيرة، ومتعددة.
دوجماتيكية "السلفيين" في السياسة، هي نفسها "الدوجما" الاجتماعية، وهي السبب مثلًا في موقفهم غير المحدد من الأقباط، أو اعتبارهم صفًا ثانيًا أحيانًا كثيرة في بلادهم، رغم أنهم مواطنون . فالأقباط في نظر الأصوليين المسلمين مخالفون لمبادئ العقيدة الأفضل لديهم، والمعنى أن حقوقهم سوف تكون منقوصة، حتى مع الدعوة لقبولهم في المجتمع، ورغم كل ما يدعو إليه مشايخ السلف من حريات لغير المسلمين. الملاحظة؛ أن مجرد إشارة مشايخ السلفية إلى قبولهم "غير المسلمين"، تعني أن هناك واقعين اجتماعيين لدى هؤلاء المشايخ . الواقع الأول هو المسلمون، والواقع الثاني هو غير المسلمين، والمعنى تفرقة؛ رغم ما يبديه المشايخ من تسامح.