تعيش محافظة الإسكندرية الآن بجدارة منقطعة النظير عصرا من الفوضى الخلاقة بلغة التآمر الأمريكية، يديرها باقتدار السيد الوزير اللواء محافظ المدينة، الذى يبدو أنه لم ينتبه إلى أنه يتولى شؤون العاصمة الثانية للبلاد التى يجب أن لا يعتلى كرسى المحافظ فيها إلا رجل يقدّر المكانة التاريخية لهذه المدينة العظيمة، ويفهم وضعها الحضارى وطبيعتها السياحية صيفا وشتاء. تولى المحافظ الحالى مسؤولية المدينة وهى فى حالة يرثى لها، وكان الأمل بعدما اصطحبه من طبل وزمر عند وصوله إلى الثغر بعد فترة ركود طويلة، من محافظ سابق طيب وبركة لا بيهش ولا بينش، كان الأمل أن ينهض بالمدينة، ويبدأ فى حل مشكلاتها المستعصية التى لا تُرضى لا عدوا ولا حبيبا، ولم يكن أحد بالطبع ينتظر من سيادته أن يغيّر الأوضاع البائسة لهذه المدينة البديعة بعصا سحرية، إلا أن الوضع ظل على ما هو عليه، ولولا الحس الحضارى لأهل مدينة الإسكندرية الساحرة لتحوَّلت فى عهده الميمون إلى غابة فى ظل غياب دور الدولة التى يمثلها من موقعه السيادى. قد تكون مشكلة الزبالة مزمنة منذ الأيام الغابرة لحكم مبارك لكن المؤسف والمؤلم أن هذه الأزمة المريعة والمهينة تتزايد يوما بعد يوم، وكنت كلما ذهبت إلى زيارة فى محرم بك أجد كوما من الزبالة يتسع ويكبر مع كل زيارة، حتى صار هذا الكوم تلا ضخما عاليا، يمكن أن يكون مسرحا تدور فوقه معارك حربية، لكن ما دعانى إلى الكتابة فى هذا الأمر أنه فى زيارتى الأخيرة منذ أيام قليلة وجدت أمرا جللا طرأ على المكان، وهو اختفاء التل الهائل من القمامة، وبالاستفسار عن هذه المعجزة اتضح أن مجموعة من الشباب المحترمين قاموا باستئجار أكثر من تريللا من حُرِّ مالهم، بالتعاون فى ما بينهم، ثم قاموا بعد هذا بحراسة الموقع بمجموعات على مدار اليوم لمدة 24 ساعة، بعد أن قاموا بتطهير المكان بالمنظفات والمواد المطهرة، وفى وقت التنفيذ ورفع تلال الزبالة يحكى الأهالى القريبون من التل الموبوء أنهم اضطروا إلى إغلاق أبواب البلكونات والشبابيك، خوفا من اقتحام جيوش الفئران والعرس والثعابين والحشرات التى كانت تهرع بالهروب هنا وهناك، ثم قام هؤلاء الشباب بصبّ حاجز على الأرض لتحويل مياه المجارى التى لا تكفّ عن الطفح. هكذا، بعزيمة هؤلاء الشباب ومبادرتهم المشكورة تحوّل الشارع الجانبى المغلق بالقمامة إلى منتدى دائم للأنشطة الرياضية والاجتماعية. فى البداية تصوَّرت أن المبادرة الشعبية أمر واجب لمساعدة الأجهزة التنفيذية، إلى أن يتحقق الصلاح الوطنى والازدهار، فى ظل الخطط الطموحة التى تدور رحاها الآن على مستوى قومى، وتظهر عظمة المصريين فى السعى للتعاون مع مؤسسات الدولة، وليس هناك أدلّ ولا أروع من الدور الشعبى المذهل فى شراء شهادات قناة السويس. لكن ما أصابنى بالهم والغم والنكد أن تل الزبالة المفتخر قد انتقل إلى موقع آخر على بعد مئتى متر، لأن أجهزة النظافة المتقاعسة لا تؤدى واجبها! ثم هل من المفترض أن يقوم الأهالى بتأجير عربات نقل لإخلاء شوارعهم من الزبالة رغم ضريبة الزبالة التى أصبحت «فِردة» (بكسر الفاء)؟ الأهم فى قضية الزبالة بعيدا عن الواقعة السابقة أن أكوامها تتراكم بجميع أنحاء المدينة، وتبلغ فى الأحياء الفقيرة والعشوائيات حدا لا مثيل له! مثال آخر على تقاعس السيد المحافظ عن أداء مهام منصبه، هو والسيد مدير الأمن، والسيد اللواء مدير المرور، أنه إذا صادفتك ظروف لركوب تاكسى عليك أن تكون جاهزا لدفع البنديرة التقديرية التى يقرِّرها السائق على هواه، وأصبح سائقو التاكسيات فى الإسكندرية مصاصى دماء أقوى من دراكيولا فى إفراغ جيوب الزبائن، لأن العدادات لا تزيد على أنها ديكور، والإسكندرية التى كانت مضرب الأمثال لزائريها -قبل انتفاضة 25 يناير- الذين كانوا يبدون إعجابهم واحترامهم لانضباط العدَّاد والبنديرة اللذين اختفيا نتيجة طناش أو غفلة أو تغافل السيد المحافظ والسيد مدير الأمن والسيد مدير المرور، بينما أصبح التاكسى فى القاهرة الذى كان مضرب الأمثال للمشكلة المستعصية غاية فى الانضباط والنظام بنسبة كبيرة، مثل أى عاصمة حضارية فى العالم، وهذا هو الفرق بين مَن يقدِّرون المسؤولية والذين يتخذون منها مغنما للوجاهة أو الكسب، فما الصعوبة فى أن يصدر السيد المحافظ وهو المسؤول الأول فيها الذى يجب أن يستشعر الهمّ العامّ، ويتقصى المشكلات، قرارا بتحديد تعريفة للتاكسى، حيث يضبط الفنيون العدادات كى تحدّد أجرة عادلة للسائق والزبون، وأن يتابع تنفيذ هذا القرار بهمة ودأب، وأن يجازى بصرامة السائقين المخالفين أو رجال المرور الذين يُقصِّرون فى ملاحقة السائقين اللصوص المخالفين؟! أتمنَّى أن لا يكون ربُّ البيت بالدفّ ضاربا حتى لا تكون شيمة الأجهزة التنفيذية والرقابية فى الإسكندرية «الطناش».