كتب: ربيع السعدني خبراء ترميم: فارق كبير فى نوعية ولون وخامة الحجر الأصلى.. وبين الحجر المستخدم فى الترميم خلال الأيام الماضية لم يكن هناك حديث إلا عن هرم سقارة والمخاوف المتصاعدة بشأن تعرضه للانهيار من جراء أعمال الترميم الجارية، والتى تقوم بها إحدى شركات المقاولات المصرية منذ عام 2006، خصوصا بعد أن نشر أحد المواقع الأمريكية المتخصصة فى مجال الآثار تقريرا صحفيا يدقّ ناقوس الخطر الأكبر حول تعرض الهرم للانهيار، واحتمالية خروجه من قائمة «اليونسكو» لمواقع التراث العالمى، نتيجة المخالفات التقنية الجسيمة التى ارتكبتها الشركة المسنَد إليها أعمال الترميم من قِبل المجلس الأعلى للآثار، والتى تتمثل فى إعادة البناء للقطع الخارجية للهرم، والتى تهدد اتهامات عديدة للشركة بأنها تقوم ببناء هرم جديد وليس ترميمه، فضلا عن الإهمال فى معالجات توزيع الأحمال بما يهدد بانهيارات أخرى عديدة. وجاءت ردود المسؤولين بوزارة الآثار المصرية جميعها بالنفى، بدءا بوزير الآثار الذى ذَكَر أن ما يتردد عن انهيار الهرم هو «مجرد شائعة إخوانية»، مرورا بتصريح آخر لمدير آثار الجيزة الذى قال مهددا: «لو سقط هرم سقارة لن يبقى الرئيس الأمريكى أوباما فى منصبه»، وصولا إلى ما كرّره رئيس قطاع الآثار المصرية بأنه ليس سوى «مخطط إخوانى»، ومصدره «موقع أمريكى مشبوه»، دون أن يكلّف أحدهم خاطره بتشكيل لجنة علمية متخصصة محايدة من خارج الوزارة تتقصّى حقيقة الأمر، وتقوم بتقييم ما تم فى الهرم. وهو ما طالبت به حركة «ثوار الآثار» من خلال عرض حالة الهرم الحقيقية، وما تم إنجازه من ترميم للرأى العام الداخلى والخارجى، حتى لا يؤثِّر ذلك بالسلب على سمعة مصر الدولية فى الحفاظ على تاريخها وآثارها، ولا يؤثر أيضا ذلك بالسلب على حركة السياحة بمصر. «الشوربجى».. كلمة السر وراء كارثة ترميم الهرم المهدد بالانهيار.. و«الآثار» فى غيبوبة وقد توصلت «التحرير» خلال هذه السطور إلى أن الهرم لم ينهَر أى جزء منه من جراء عمليات الترميم، وإن كل ما قيل وأثير حوله كان عن ترميمات خاطئة، من شركة مقاولات تحوم حولها شبهات الفساد، وتمارس المخالفات الفنية والتقنية خلال أعمال الترميم، وكان من شأنها أن تغير من ملامح الأثر «الهرم المدرج»، وهو ما يعدّ جريمة كبرى طبقا لاتفاقية «اليونسكو»، فضلا عن كون الأزمة الحقيقية ليست فى الفشل، بقدر كونها فى تراكمه عبر السنوات الثمانى الماضية. بداية الأزمة انتشرت الأقاويل مؤخرا عن تعرض هرم زوسر المدرج، أقدم مبنى تذكارى تم بناؤه فى العالم، للانهيارات لسبب أو لآخر، وتبعها كثيرٌ من التعليقات بين نفى وتأكيد، لكن أحدها لم يتطرق إلى تاريخ الأزمة التى تبدأ أحداثها منذ عام 1992 ميلادية. هرم زوسر هو نفسه هرم سقارة، سُمى باسم الفرعون زوسر الذى دُفن به، وهو أحد معالم آثار جبانة «سقّارة»، وقيمته التاريخية تكمن فى كونه أول هرم مصرى من 6 مصاطب، بناه آمحوتب، أول معمارى فى التاريخ خلال القرن 27 قبل الميلاد، ومن ثمَّ فهو يعبّر عن عبقرية المرحلة الانتقالية من المصاطب إلى الأهرام مكتملة البناء. بعد زلزال 1992 قدَّم أساتذة استشاريون تقارير بوجود أضرار بهرم زوسر وتوازن كتلته، واحتياجه إلى مشروع ترميم ودعامات منعا لتضاعف الضرر، لكنه لم يُلتفَت إلى التقرير سوى عام 1998، ولم يتم البدء فى أى ترميمات حينها. وفى عام 2002 وافق قطاع المشاريع على المشروع، وبدأ البحث عن شركة لديها خبرة فى التعامل مع الهياكل الجوفية تحت الأرض، باعتبار أن الهيكل الفعلى لآثار سقارة يبدأ مما يقرب من 32 مترا تحت الأرض. بدأت أعمال الترميم بالفعل عام 2006، فمن ضمن 32 شركة مقاولات وترميم آثار تم اختيار شركتين للمقارنة: هما شركتا المقاولون العرب، والشوربجى للمقاولات، وتم إسناد المشروع بالكامل إلى شركة «الشوربجى» بإجمالى مبلغ 25 مليون جنيه فى 2006، والذى ارتفع إلى 53 مليونا فى 2011، رغم أنه المشروع الأول من نوعه فى تاريخ الشركة، وكان العقد المبرم بين «الآثار» والشركة أن تنتهى أعمال الترميم فى 2008، ولم تنتهِ الأعمال حتى الآن. ونفى المهندس ميشيل فريد، المدير التنفيذى لمشروع ترميم هرم سقارة بشركة الشوربجى، أن يكون ذلك المشروع هو الأول فى تاريخ تعاملات الشركة مع وزارة الآثار، لكن هناك 6 مشروعات أخرى تمّت إجراؤها مع الوزارة عبر مناقصات محدودة، بإجمالى تعاقدات تصل إلى 53 مليون جنيه، مؤكدا أن الشركة مصنفة درجة أولى فى عمليات ترميم الآثار فى اتحاد المقاولين. تقرير «اليونسكو» أما عن الانهيارات وأخطاء الترميم، فهى أيضًا ليست حديثة، فالمشكلات الإدارية موجودة منذ عام 2008، وبعد ثلاث سنوات أكدت تقارير «اليونسكو» التى أعدها العالم جورجيو كورتشى، مبعوث منظمة «اليونسكو» فى مصر لدراسة وضع هرم زوسر المدرج (سقارة)، والكشف عن حالته الداخلية والخارجية بعد 5 سنوات من التعاقد مع شركة «الشوربجى للترميم»، أن الأوجه الخارجية للهرم تعانى من انعدام الصيانة على مر القرون، بالإضافة إلى الأضرار الناجمة عن إزالة الكتل بفعل الإنسان، وقد خلق هذا تجاويف كبيرة فى عدة مناطق وظهر عديد من الكتل معلقة بشكل خطير دون وجود أى دعائم لحملها. وأوضح التقرير أن الهيكل الجديد لإعادة تنفيذ الأسطح أو لملء «التجاويف» لا يتحمل أى ثقل، وبالتالى لا يسهم فى الاستقرار العام إلى أن يحدث هبوط لجسم البناء أعلاه، وأضاف التقرير: «لمنع هذه المشكلة والعمل لتفعيل كفاءة الدعامات المستحدثة على الفور، فى بعض الحالات، عندما يتعلق الأمر بمساحة واسعة، فإنه من المفيد استحداث قوة رأسية بشكل اصطناعى على الأربطة الأفقية بين بلوكات الأحجار الجديدة والأحجار القديمة فى الموقع، التى فقدت دعائمها الأصلية وتعمل الآن ككتل ناتئة معلقة دون حامل». تاريخ من المخالفات وعلى صعيد آخر وبالبحث وراء شركة «الشوربجى» للإنشاءات والمقاولات والتى تم إسناد كل أعمال الترميم إليها منذ عام 2006، توصلنا إلى أن مشروع تطوير الهرم هو أول مشروع لترميم الآثار فى تاريخ الشركة، وأن مشاريعها بين تجديدات تل البسطة، و4 مشاريع تخفيض لمنسوب المياه الجوفية واثنان تطوير ميدانى، وكانت مشارعيها الستة قيد التحقيق آنذاك بسبب طرح هذه العمليات بأثمان مبالغ فيها وعدم إتمامها على أكمل وجه، حسب ما جاء عبر موقع صاحب الشركة ناصر الشوربجى، حيث لم نجد سوى ترميم هرم سقارة الذى لم يرمم بعد رغم مرور أكثر من 6 سنوات على العقد المبرم بين الشركة وبين «الآثار». مخالفات تقنية جسيمة الشركة غيَّرت معالم الهرم.. وهى «جريمة» طبقًا لاتفاقية «اليونسكو» طبقًا للعقد الموقَّع بين شركة الشوربجى، والمجلس الأعلى للآثار فى عام 2006 حيث إن أعمال الترميم من المفترض أن تنتهى فى عام 2008، لكنها ما زالت قائمة حتى الآن ولم تنته بعد، دون وقف أو عقوبات أو متابعة تقنية من «الآثار». كما توصلنا إلى أنه من الناحية الفنية، مارست الشركة عديدا من المخالفات التقنية، أبرزها إضافة حوائط جديدة إلى جسم الهرم من الخارج بطريقة أصبح معها الهرم كأنه حديث البناء، حيث جلبت الأحجار من محاجر «طرة»، فى حين أن جميع أحجار الهرم المدرج جاءت قديما من هضبة «سقارة». الوزارة أسندت أعمال الترميم إلى شركة لا خبرة لها فى الآثار مقابل 53 مليون جنيه.. فغيَّرت معالم الهرم دون متابعة من «الآثار» تقرير «اليونسكو» فى 2011: «الشوربجى» ارتكبت مخالفات تقنية جسيمة.. وأضافت حوائط جديدة إلى جسم الهرم.. وأهملت فى توزيع الأحمال الوزير: «اليونسكو» أشادت بأعمال الترميم الجارية.. والمنظمة تنفى إصدارها تقارير حديثة الدكتور عبد الفتاح البنا، أستاذ ترميم المواقع الأثرية، أكد أن الشركة لم تحافظ على الهيكل العام الأصلى للهرم عبر عمليات تنسيق الألوان أو حتى المواد والأحجار المستخدمة، فهناك فرق كبير بين نوعية ولون وخامة الحجر الأصلى وبين الحجر المستخدم حديثًا فى الترميم، على عكس ما اتفقت عليه المعايير الدولية فى الترميم التى لا تسمح بإضافة أكثر من 5٪ من المبانى الجديدة لأى أثر فى حال وجود ضرورة لذلك، لأن تغيير معالم الآثار يعتبر جريمة طبقًا لاتفاقية «اليونسكو» التى وقَّعت عليها مصر عام 1972 وأصبحت تشريعًا داخليًّا، وأيضًا الإهمال فى معالجات توزيع الأحمال مما يهدد بانهيارات أخرى. كما أشار إبراهيم منير، خبير ترميم الآثار إلى أن الشركة استخدمت الجير والرمل والطين ومادة كيميائية لاصقة فى عمليات الترميم وهى عبارة عن بيكربونات الكالسيوم ومادة «vac» التى تحتوى على عنصر الكبريت والتى مع الرطوبة والأمطار ينتج عنها حمض الكبريتيك الأكثر حامضية والذى يؤدى إلى تآكل الحجر وتساقطه من جديد، وتصبح بيكربونات الكالسيوم مثل الليمون المجفف يفقد ماؤه ومن ثم الدور اللاصق له، وهو ما يؤكد فشلهم الذريع فى الترميم كما حدث من قبل فى استعمال الطين كوسيلة ترميم نجم عنها عديد من الكوارث خلال ترميم الآثار الإسلامية، فضلا عن أن تغيير الشركة ما بين 10 إلى 20٪ من الحجر الأصلى للهرم يمكن أن يفقده بريقه وأصالته التى هى شرط أساسى من «اليونسكو» للاحتفاظ به كتراث عالمى. ومع العلم بأن هناك بعض المبالغات فى تقدير خسائر الهرم والانهيارات، إلا أنه تعرض بالفعل لانهيارات جزئية، ولكمّ من الإهمال والأخطاء لا يستهان به، وما يراه البعض الآن مبالغًا سيكون فى المستقبل واقعًا. ربي الجدير بالذكر أن وزارة الآثار ما زالت تنفى وجود أى انهيارات وتقرّ ب«جودة» أعمال الترميم الداخلية والخارجية، وهو ما أكده ممدوح الدماطى، وزير الآثار، الذى ذكر فى تصريحات خاصة ل«التحرير» أن منظمة «اليونسكو» الدولية كتبت تقريرا أخيرا تشيد فيه بأعمال الترميم الجارية وأن الشركة التى تم إسناد ترميم الهرم إليها تقوم بأعمالها على أكمل وجه تحت إشراف أثرى وهندسى وأكاديمى من قبل الوزارة على المشروع منذ بدايته. ومن المعلوم أن ممثل «اليونسكو» قد كتب تقريرا غير رسمى صادرا فى عام 2011 يعلّق بالسلب على أعمال الترميم، ورغم نفى بعض أفراد «اليونسكو» كتابة تقرير عن الهرم حديثا، مؤكدين أنهم سوف يقومون بزيارة للهرم فى الشهور القادمة عبر إخصائى مركز التراث العالمى فى مصر فيرونيك دوج، وأن تقرير 2011 لم يكن تقريرا رسميا، فإنه كان له تحفظات على تغيير طبيعة الهرم الأثرية. علماء الآثار طالبوا بتشكيل لجنة علمية ومالية وإدارية متخصصة بعيدا عن صلاحيات وتبعية وزارة الآثار، حيث طالبت الأثرية مروة الزينى، عضو الحملة المجتمعية للرقابة على التراث والآثار، بسرعة إجراء تحقيق نزيه وعاجل فى المخالفات الجسيمة التى وقعت خلال عمليات الترميم لهرم سقارة والأموال المهدَرة منذ عام 2006 قبل أن تتم إزالة الهرم من قائمة مواقع التراث العالمى، وهو ما لم يحدث من قبل سوى مرتين فى تاريخ «اليونسكو»، وقد رحب الوزير بذلك قائلا: ما دام هناك نقد بنّاء، فأى شخص هو موضع ترحيب، وحماية التراث والآثار المصرية القديمة هى الأولوية العظمى عندنا».