حذرنا فى أكثر من مقال، طوال الأسابيع الماضية، من نظام حكم فاشى يعتمد على طرق القرون الوسطى فى التعامل مع شباب الثورة بالدرجة الأولى، ومع القوى السياسية العاقلة التى تساند الشوارع والميادين عموما. ويبدو أن السرعة والتعجل فى كل شىء عجلا بدورهما ببدايات مثيرة للتساؤلات حول منهج الاغتيالات السياسية على يد مجهولين بطبيعة الحال. ففى الوقت الذى تتوالى فيه الرسائل السياسية والأمنية لتطمين الخارج بأن كل شىء على ما يرام، تتشابك الخريطة السياسية والأمنية فى الداخل بصورة ضبابية وغامضة. فاغتيال عضو ائتلاف لجان الدفاع عن الثورة محمد جمال فى نحو الرابعة فجر يوم الأحد 22 يناير على أيدى مجهولين فى ظروف غامضة، حيث تم ذبحه بسلاح حاد خلف دار القضاء العالى، وكذلك وفاة الناشط السياسى كريم أبو زيد، عضو ائتلاف الثورة بالغربية، بعد تعرضه لحادثة مرورية غامضة، يضعان علامات استفهام كثيرة وكبيرة على شكل الداخل المصرى بعد 25 يناير 2012. ولا شك أن الأمور ستتخذ منعطفات جديدة ومثيرة خلال الفترة المقبلة، خصوصا أن الشرعيات أصبحت كثيرة، وعلى رأسها شرعية البرلمان الجديد، وشرعية حكم العسكر الذين حموا الثورة، وشرعية التحالف بين العسكر وتيار الإسلام السياسى ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة إلى الآن، وشرعية هذه الجماعة دوليا بعد حصولها على الموافقة من الولاياتالمتحدة بقانونية وجودها. غير أن أخطر الشرعيات التى تواجهها مصر الآن هو التحالف المقدس بين السلاح والعنف والدين الذى سيشكل عصب النظام السياسى-الدينى-العسكرى-الأمنى المقبل. كل ذلك يعيد الطريق الآن إلى منظومة حكم أخطر بكثير مما يتصور الجميع، بينما الشرعية الأخرى فى الشوارع والميادين تواجه حملة تشويه وإقصاء وإبادة حقيقية تحولت إلى فعل الاغتيال المباشر بعد الحصول على كل الصكوك الأخلاقية والنفسية والدينية اللازمة. لقد تحولت مصر قبل أيام قليلة من 25 يناير 2012 إلى صورة كلاسيكية من الفاشيات القديمة، غير أن الكثيرين لا يدركون أن ما يجرى مختلف تماما عما كان يجرى فى الأزمنة القديمة وأشكال المواجهة الكلاسيكية، وفى ذلك تحديدا عنصر القوة وعنصر الانتصار فى آن واحد بالنسبة إلى شرعية الشوارع والميادين، وقد تنضم إليها شرعية العمال والمصانع والمهمشين بكثافة مفاجئة. فالعديد من المبانى والمنشآت تحول إلى ثكنات عسكرية محاطة بالأسلاك الشائكة وقوات الأمن والجيش، بل وصل الأمر إلى إغلاق شوارع حيوية بالأحجار الضخمة والكتل الخرسانية. هكذا يكتشف الشخص العادى جدا أن هذه المنشآت والمبانى تحولت إلى سجون حقيقية للسجانين أنفسهم. ولننظر إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون وشوارع «قصر العينى» و«الشيخ ريحان» و«محمد محمود»، بالإضافة إلى العديد من المبانى والمنشآت الأخرى فى مختلف أحياء القاهرة والمدن المصرية المختلفة. المواطنون يسيرون فى حرية تامة، بينما الجنود وقوات الأمن محبوسة خلف نفس الأسلاك والحواجز والموانع الخرسانية التى أقامتها بنفسها. وقد نكتشف فجأة أنه رغم كل الشرعيات المجيدة التى تتلفع باللاهوت والكهنوت والغشم، فهى خائفة ومرتبكة وتصلح الأخطاء بأخطاء أفظع. لا شك أن الاتفاقات الضمنية مصممة على إيقاف كل العمليات الجارية عند هذا الحد بالذات. عند حدود ثورة 25 يناير 2011، وتشكيل برلمان وإدارة المرحلة كما هى. هذه الاتفاقات الضمنية عقدت بشكل سلس بين بعض قوى الداخل، وبينها وبين قوى خارجية على رأسها الولاياتالمتحدة. أى أن كل ما يمكن أن يجرى أو يحدث فى مصر الآن وفى ما بعد سيكون ضد الشرعيتين الداخلية والخارجية. إذن، مَن فى واقع الأمر يستعين بالقوى الخارجية؟ وضد من؟! هذا مجرد سؤال ساذج وبسيط واستنكارى فى آن واحد، ولكن بعد أن اتضحت الاصطفافات جيدا، وأقيمت المناطق العازلة، باتت الصورة أكثر وضوحا وحدة: صراع إرادات حقيقى، والوقت هو العنصر الحاسم، علما بأن كل خطوة إلى الأمام من جانب الشوارع والميادين ستفهم على الفور بأنها ليست موجهة ضد تحالف العسكر والإخوان فقط، بل أيضا ضد رغبة الخارج القوى، ولكن الذى قد يتخلى فى لحظة ما عن حليفه لأنه يخذله ويشوه صورته ويتلاعب بمقدرات ليس بالضبط الناس والمواطنين، بل بمصالح الحليف الأقوى والداعم إلى الآن. هذا يعنى ببساطة أن كل خطوة إلى الأمام هى فى واقع الأمر تحقيق مطالب الثورة والتأسيس لدولة مدنية عصرية حديثة قائمة على الحرية والقانون والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهى فى الوقت نفسه استحداث بوصلات ومتجهات جديدة لإرساء علاقات جديدة أيضا مع الدول الأخرى، بما فيها القوى التى تريد، إلى الآن فرملة كل شىء وإيقاف ما يجرى عند الحدود التى تخدم مصالحها. ولكن السؤال الذى يطرح نفسه الآن: ما حدود مصالح الأمة المصرية والدولة المصرية فى إطار المواجهة مع نظام حكم جديد يختزل كل شىء فى شرعية عسكرية-دينية تُخدِّم على مصالح قطيع جديد من طواغيت المال والإعلام الذى يعرف التحالفات كطريق لتحقيق مصالح لا تختلف عن مصالح التحالف السابق للنظام الاستبدادى مع طواغيت المال وزعماء العصابات المحلية والإقليمية؟!