لا شك أن أى انتخابات هى فرصة ذهبية لكل من يشارك فيها بمعايير المكسب والخسارة. المقصود بالمكسب والخسارة هو فوز قوى سياسية وخسارة أخرى والدخول فى مفاوضات لتشكيل تحالفات وتكتلات فى إطار عملية سياسية لإدارة أمور البلاد. ولكنْ هناك مفهوم آخر للمكسب والخسارة يتمحور حول تنمية البزنس وفتح آفاق جديدة لتراكم الثروات لبعض المشاركين فى الانتخابات ممن ليس لهم أى شعبية أو أى ماض أو مستقبل سياسى. إذا كانت غالبية القوى السياسية مدركة مدى المهزلة السياسية التى تعيشها مصر حاليا، وأبعاد خطط النظام العسكرى، ونيات كل من الإخوان المسلمين والسلفيين وفلول الحزب الوطنى، إذن فلماذا المشاركة فى هذه الانتخابات أصلا؟ سؤال ساذج يمكن لأى تاجر أو بزنس مان أو مراهق سياسى قضى كل حياته، إما فى نضال سرى هو وثلاثة من أمثاله وإما فى غرف مغلقة تهز جدرانها هتافات 27 نفرا بداخلها. لن يربح أى تاجر أو بزنس مان أى فلوس أو سمعة جيدة، لأن طواغيت المال من الإخوان وفلول الوطنى سيضربون السوق تماما وسيكوشون على كل شىء. هذا لكى ننتهى من نقطة البزنس والبزنس السياسى داخل القوى التى ترى أنها مناوئة لتحالف العسكر والإخوان وفلول الوطنى. لماذا اللهفة على الانتخابات، والمناورات الكلامية والمناقشات البيزنطية التى تظهر مدى عبقرية وتنظيم أنصار المشاركة فى الانتخابات، مهما كان الأمر لكى لا يتركوا الساحة لتحالف الأعداء؟ قد تكون الانتخابات، التى ستخسرونها حتما، وسيلة للانتشار والدعاية لبرامجكم وأحزابكم ومنظماتكم. ولكن إذا كنتم ترون أنكم ناضلتم عشرات الأعوام وتزعمون أن لكم أنصارا بين الفلاحين والعمال وفى المصانع والغيطان، فلماذا إذن تلاحقكم الخيبة وراء الأخرى والفشل تلو الآخر على مستوى التنظيم والتنظير والعمل السياسى الساذج والذوات المتضخمة؟ ولكن ألا تعرفون أن المشاركة فى الانتخابات المقبلة تحديدا هى أكبر ضربة للثورة التى بدأت فى 25 يناير؟ ألا تدركون أن مشاركتكم هى عملية التجميل المطلوبة لاستتباب نظام أسوأ من نظام مبارك يؤسس له العسكر وطواغيت المال من الإخوان المسلمين وفلول الحزب الوطنى؟ الخريطة واضحة تماما باللونين الأبيض والأسود: النظام العسكرى والإخوان المسلمون وفلول الوطنى فى جبهة إن لم يرتضوها فسوف تجبرهم الظروف على قبولها بفضل عوامل دولية وإقليمية، وليست داخلية إطلاقا. إذن، أين الجبهة الثانية؟ الجبهة الثانية، ببساطة، لا تزال فى المنطقة الرمادية. جزء منها، وضع نفسه فى تلك المنطقة لحسابات انتهازية وتآمرية، مثل حزب الوفد وبعض الأحزاب العتيقة والأخرى الكارتونية التى شُكِّلت بأموال طواغيت المال من فلول الوطنى. والجزء الثانى، وضع نفسه فيها لأسباب تتعلق بفساد فكرى وأخلاقى وانحراف سياسى وعقائدى وخلل بنيوى فى الرؤية والسلوك، مثل كل الأحزاب والتنظيمات والمجموعات اليسارية والليبرالية والوطنية والقومية والمستقلة. أعرف جيدا أن وضع اليسارية إلى جوار الليبرالية قد يبدو مثيرا للاستغراب والدهشة ويقارب الخطأ. ولكنه ليس إطلاقا خطأ فى ظل استقطابات وتحالفات الحد الأدنى وتحديد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التى تحتاج إلى هذا التحالف أو ذاك. إن ترك العسكر والإخوان وفلول الوطنى يخوضون تلك الانتخابات هو أكبر خطوة لدفع ثورة يناير إلى الأمام. ينبغى حرمان الأطراف الثلاثة من أى شرعية على الإطلاق. فالانتخابات المقبلة باطلة، لأنها مبنية على باطل منذ استيلاء العسكر على السلطة وإجراء استفتاء 19 مارس. باطلة لكل الأسباب التى تُبكى المصرون ليلا ونهارا إلى يومنا هذا على شهدائهم وجرحاهم ومعتقليهم. باطلة بسبب تعميق الهوة الاجتماعية بين المصريين، والاعتداء على الهوية المصرية وزرع الشقاق الطائفى بين المصريين وبعضهم البعض. باطلة بسبب بلطجة الدولة العسكرية واستئساد طواغيت المال من الإخوان والسلفيين وفلول الحزب الوطنى ومؤامرات الأجهزة الأمنية واستبداد القوة العسكرية المتمثلة فى شرطتها ومحاكمها. إن نزع الشرعية عن التحالف الثلاثى، حتى وإن تعكر شهر العسل قليلا بين العسكر والإخوان أو التف أحدهما على الآخر أو بدا العسكر أكثر قسوة على فلول الوطنى، لن يكون بالمشاركة فى الانتخابات من أجل تعويض خسائر تجار السياسة والثورات الذين تسللوا إلى بعض الأحزاب اليسارية والليبرالية الجديدة، بل بمقاطعتها والعمل الجدى بين الناس على ضرورة إعادة الحصان أمام العربة لتشكيل مجلس رئاسى مدنى خال تماما من أى عسكريين وإعادة الجيش المصرى إلى ثكناته للحفاظ على هيبته واحترام المصريين له (وللدفاع عن حياض البلاد لا لتأليب المصريين بعضهم ضد وقتلهم فى الشوارع والميادين واعتقال خيرة شباب الثورة وتعذيب المواطنين حتى الموت) وتشكيل مجلس لوضع دستور جديد... إن نزع الشرعية عن التحالف الثلاثى لن يكشفه فقط أمام الخارج، بل سيفقده أوراق اعتماده التى قدمها إلى الغرب والولايات المتحدة تحديدا. وسيفقده آخر ورقة توت أمام الأغلبية الصامتة التى بدأ البعض يوجه إليها سهام اللوم والتأنيب ويحمّلها نتائج فشله فى العمل السياسى. إن الأغلبية الصامتة، التى تفهم أكثر بكثير من كل فصائل اليسار والليبراليين والقومجية والوطنيين، لا يمكن أن تتحرك ضد هذا التحالف إلا فى حال نزع الشرعية عنه وعدم المشاركة فى المهزلة المقبلة.. ألم يسأل منتقدو الأغلبية الصامتة أنفسهم: لماذا لا تصدقهم تلك الأغلبية أو تثق بهم؟!