إن السلطة العسكرية-الدينية التى استولت على مصر بعد 25 يناير 2011، مُصرّة على مواصلة نهج لا يقل وقاحة عن نهج تحالف مبارك وأولاده مع العصابات وطواغيت المال. فالنظام العسكرى الحاكم فى مصر قرر الاستناد لا إلى شرعية الثورة ودماء وأرواح شباب مصر، بل إلى التحالف مع تيارات الإسلام السياسى. إضافة إلى المؤسسات الدينية الرسمية المتخاذلة. لقد قرر العسكر بث بذور القطيعة بين الشعب المصرى وجيشه الأبىّ وزرع مقدمات الشك بينهما ولزمن طويل، بعد أن أقدم مبارك وأولاده وعصاباتهم على زرع الفتنة بين الشعب والأجهزة الأمنية، لدرجة أن الشكوك طالت أهم وأعز وأعظم أجهزة مصر، ألا وهو جهاز المخابرات المصرى العريق وحامى حمى الديار بحق. هكذا دمرت الطغمتان الحاكمتان، السابقة والحالية، العلاقة بين الأمة المصرية وأبنائها بإراقة دماء المصريين الطاهرة فى مواجهات بين قوى الجيش والأمن التى اختارت أن تنفذ أوامر الطغمة الحاكمة لأهداف أقلها إثارة الفتنة فى صفوف الأمة المصرية من أجل أهداف قصيرة النظر والإبقاء على السلطة فى أيدى مجموعة من العسكر بمرجعية دينية لا تقل انحطاطا وتلاعبا باقتصاد البلاد وأمنها ومشاعر مواطنيها. لقد قلنا فى مقالات سابقة إن كل قطرة دم ستراق بداية من 25 يناير 2012 وكل حياة ستزهق وكل مصرى سيُعتقَل أو يُصَاب، سيكون كل ذلك فى رقاب جماعة الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى ومعهم العسكر والأجهزة الأمنية. وإذا كان العسكر وطواغيت المال من تيار الإسلام السياسى يتصورون أنهم وضعوا المصريين أمام خيار واحد ووحيد، ألا وهو أن كل من سيقف أمام السلطة الفاشية الجديدة بشقيها الدينى والعسكرى هو آثم شرعا لأنه يقف ضد الإسلام ممثلا فى الإخوان المسلمين والسلفيين وضد ولى الأمر ممثلا فى الطغمة العسكرية الحاكمة، فهم خاطئون ومخطئون. فالعسكر يعتقدون أنهم سيحتفظون بالسلطة مقابل إشراك الإخوان فيها وبشرط الحصول على صك غفران موثّق دينيا وشرعيا بخروج آمن. ولكن لا خروج آمنا لا لهذا ولا لذاك. لقد جر الاثنان مصر والأمة المصرية إلى طريق شائك ووضعوا البلاد عُرضة لمهب رياح الرغبات والمصالح الأجنبية عموما والأمريكية على وجه الخصوص. ووظّفوا مصر ومواردها البشرية والمادية مجددا فى خدمة مشروع أمريكى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو الأمر الذى يعد تكرارا لمؤامرات نظام مبارك بجعل مصر مركز انطلاق لتصفية الحسابات الأمريكية مع أطراف أخرى أو عامل ضغط لتركيع الدول المجاورة. إذا كانت الكائنات الفضائية قد قتلت المصريين وسلبت نور عيونهم طوال عام كامل، فسوف يكون «الفضاء الإلهى» بالكامل مجندا لقتل أى مصرى يخرج على «الدين وولى الأمر». من سيُقتَل بعد 25 يناير 2012 بأيدى الكائنات الربانية لن يكون شهيدا وفقا لصكوك وتشريعات دولة الخلافة، لأنه كافر وخارج عن كهنوت الإخوان. وفى المقابل سيحصل كل قاتل وبلطجى وقاطع طريق على كل حسنات الدنيا إذا قتل وعاث فسادا أو على شرف الشهادة إذا وافاه الأجل فى معركته مع الكفار والملحدين. هكذا تتشكل ملامح الدولة الفاشية المقبلة التى سيكون فيها المصريون «أعداء الإسلام»، بالضبط مثل «أعداء الوطن» فى أدبيات الأنظمة الاستبدادية. إن أى دستور سيتم وضعه فى ظروف تحالف العسكر والإخوان المسلمين سيكون من أجل الاستهلاك الخارجى والإمعان فى كسب الدعم الدولى ضد الأمة المصرية، بينما سيكون الحكم بالأعراف والعادات والتقاليد وتطييب الخواطر والتلفيقات الدينية. فلا القضاء أخذ مجراه طوال عام كامل إلا ضد أبناء الثورة والشهداء، ولا بت فى القضايا المرفوعة ضد تزوير الانتخابات، ولا القانون أخذ مجراه ضد الجماعات العقائدية المحظورة. بل وإمعانا فى الضرب بكل شىء عرض الحائط وتحويل مصر إلى مستنقع من العبث والفُجر والعدمية، قررت السلطة الجديدة عقد أول جلسة لبرلمان مثير للسخرية. لقد اكتمل المشهد العبثى المصرى بانسحاب محمد البرادعى من الترشح للانتخابات الرئاسية، وظهور إعلان بأنه سيؤسس حزبا سياسيا مع مجموعة من الشخصيات بينها الذى لم يتلوث، وبينها من تلوث بالفعل. هذا فى الوقت الذى عوّل فيه المصريون على ذكاء البرادعى وإمكانية وجوده بينهم فى ثورتهم الثانية. لا أحد يدفع فى اتجاه العمل الأحادى والخيارات الضيقة. علما بأن خيارات الثورة ليست ولم تكن أبدا ضيقة بكل أبعادها السياسية والتشريعية، والاجتماعية قبل كل شىء. فالوجود بين الناس فى ثورتهم لا يتنافى إطلاقا مع العمل على المحور السياسى والجماهيرى. ولكن إذا كان العمل السياسى والجماهيرى شرعنة للسلطة الفاشية الجديدة وتجميلا لها بالدخول فى معارك سياسية وبرلمانية شكلية ومنح الانتهازيين الفرصة لغسل أياديهم من التواطؤات والمجالس الوهمية التى شاركوا فيها واستخدام خبيث لطاقات الشارع وفورته لمساومات غير محمودة العواقب، فكل ذلك طعنة فى ظهر الثورة وخيانة لدماء الشهداء وحقوق الأمة المصرية. لقد أغمض المصريون طوال عام عيونهم عن أن كل الأحزاب السياسية المصرية شاركت نظام مبارك فساده. لكن عام 2011 كشف عن كم الانتهازية والتواطؤ للأحزاب السياسية المصرية العتيقة التى كان من المفترض أن تتلاشى مع مؤسسها وأولاده وبعض أركان نظامه. ومع ذلك فأمامها الآن فرصة ذهبية لكى تتلاشى مع النظام الفاشى الحالى أو تنجو بنفسها لتنزل إلى الشارع. هذا هو الخيار أيضا أمام أى حزب جديد يفترض أنه سيضم أبناء الثورة وسيؤسس لدولة لا عسكرية ولا دينية تكتسب وجودها من شرعية ثورة 25 يناير 2012.