قبل قيام ثورة 25 يناير تناثرت معلومات حول عدم رضا المؤسسة العسكرية عن خطوات مبارك وقرينته «وطواغيت المال وتجار الحديد وأراضى الدولة» بشأن توريث الحكم. وتم وضع المؤسستين العسكرية والأمنية «المخابرات تحديدا» وجها لوجه. فالأولى غير راضية «هكذا تسربت الأخبار»، وبالتالى جرت محاولات لتحييدها. والثانية خاضعة تماما لرغبات مبارك وقرينته، فتم تقريبها من مؤسسة الأسرة -السلطة- ووضع كل الملفات فى يدها. وعندما احتدمت الثورة، دبت خلافات فى المؤسسة العسكرية ليس لها علاقة إطلاقا بالثورة أو الشعب، لكنها مرتبطة بتوزيع السلطة. بينما ظلت المخابرات تقف خلف «رب الأسرة» حتى النهاية. من الواضح أن أعضاء المجلس العسكرى لم يكونوا هم التكتل المضاد لعملية التوريث. إذن، من كان ضد التوريث فى المؤسسة العسكرية؟ على الجانب الآخر، كانت الملفات المهمة، بما فيها أوضاع الأسرة ومستقبلها فى يد حفنة من أفراد المخابرات. ولكن من الصعب أن نوجه أى اتهامات إلى جهاز المخابرات ككل. فهل كان للمخابرات المصرية -أو على الأقل مجموعة أو تيار- يد فى الإطاحة بالأسرة؟ لقد أصبح واضحا أن مجموعة المجلس العسكرى، كأى مجموعة فى أى نظام عسكرى استبدادى، قد قفزت على السلطة فى غفلة من الزمن وعلى أكتاف من قاموا بالثورة. وكان غياب، أو تغييب، جزء من المؤسسة الأمنية «وزارة الداخلية وتنظيم أمن الدولة» فرصة تاريخية ظل المجلس العسكرى يطيل فيها لأهداف اتضحت فى ما بعد. علما بأن لا أحد إلى الآن قد تحدث عن موقف «الحرس الجمهورى»! إن المجلس العسكرى، المتحدث باسم القوات المسلحة والمؤسسة السياسية، لا يمكنه أن يتنازل هكذا بسهولة عن سلطة تمتد إلى 60 عاما. وهو إن سلمها إلى «مدنيين!»، فهو يعنى أنهم لا يرتدون الزى العسكرى. بل إن مناوراته طوال 8 أشهر لا تعنى إلا أنه لن يتنازل عن وجوده فى السلطة مستأثرا بالقدر الأكبر من التحكم والرقابة والتوجيه والموارد المالية. فمن الذى يمكنه أن يحقق هذا الحلم لمجموعة كانت خاضعة تماما لسطوة «الأسرة-السلطة»، ووجدت نفسها فجأة على كرسى العرش؟ هنا يمكن أن ندرك مغزى النشاطات المحمومة لرئيس المجلس على المستوى الداخلى من افتتاح مشاريع القوات المسلحة «معنى ذلك أن مصر خالية تماما من أى مؤسسات وشركات وهيئات قادرة على العمل وإنجاز ما تنجزه القوات المسلحة التى يجب أن تقوم بمهام أخرى تماما»، وزيارات لمصانع ومناطق سكانية «علما بأن رئيس الحكومة يمكنه أن يقوم بذلك!»، وقيامه بزيارة لقبر عبد الناصر «هل كان يمكنه أن يقوم بهذه الزيارة فى أثناء وجود مبارك فى السلطة؟!». هناك البعض الآخر من أعضاء ما يسمى بالمجلس العسكرى يقومون بمهامهم فى الساحة الخارجية لا لشىء إلا للتأكيد على التطمين بالاستقرار من أجل الحصول على المساعدات المالية، ومن أجل ضمان التأييد والدعم الدوليين فى حال ظل النظام العسكرى قائما فى مصر، وهو ما ظهر جليا فى التصريحات المراوغة لوزيرة الخارجية الأمريكية. هناك البعض الثالث الذى يدير المناورات فى الداخل، وهى مناورات أقرب إلى مناورات الانتخابات الطلابية فى المدارس. ما يتسق مع عقلية ومناورات العسكر وجماعة الإخوان والوفد وبعض الأحزاب المهجنة بعناصر من الحزب الوطنى، وبعض مستشارى نظام مبارك والانتهازيين الذين ساندوا ديمقراطية الحزب الوطنى وطواغيت المال والأجهزة الأمنية. إن هذا البعض يتعامل بمنطق النظام السابق وتصوراته الخاطئة بامتلاك كل الأوراق. وهو، كامتداد لنظام مبارك العسكرى-الاستبدادى، يسعى إلى دق الأسافين بين قوى سياسية جاهزة أصلا لذلك بما تملكه من رصيد تآمرى ومراهقة سياسية تعتمد على المناورات الساذجة وليس على الرصيد السياسى أو الجماهيرى. هكذا يعتمد المجلس العسكرى نفس الآليات القديمة مع قوى سياسية عتيقة متعطشة لا إلى السلطة فقط، بل وإلى دخول التاريخ أيضا. فالتحالفات غير المبدئية لا يمكن أن تؤدى إلا إلى إفساح الساحة للنظام الذى يريده المجلس العسكرى المتحكم الرئيسى والأوحد فى كل شىء، خصوصا أن هذه القوى ليست ناضجة سياسيا وتعتمد آليات بدائية للتنظيم والانتشار. هناك تجارب تاريخية تحالف فيها العسكر أو الأجهزة الأمنية مع قوى ليبرالية «شبيهة بالوفد» أو مع قوى دينية «شبيهة بالإخوان»، ولكن كلها باءت بالفشل وتحولت إلى أنظمة استبدادية أدت إلى إصابة دولها بتشوهات تاريخية. أما تحالف قوى مثل الوفد والإخوان، فهو تحالف قائم على اقتناص الفرصة التاريخية ولن نندهش عندما يحدث الطلاق البائن بين حليفين لا يجمع بينهما إلا الرغبة فى وقف عجلة الثورة عند حدود مصالحهما فقط. لا خلافات جذرية بين العسكر. هناك فقط توزيع للأدوار تمهيدا لتوزيع السلطة. لكن العقبة الوحيدة أمامهم ليس الإخوان أو الوفد فهم يعرفون بعضهم بعضا منذ عهد مبارك. العقبة هى القوى التى ترفض المشاركة فى المؤامرة. وكذلك المجموعات النشطة التى قد تبدأ العمل السرى أو تستحدث طرقا جديدة لإسقاط النظام فى حال تردى الأوضاع. ولا يمكن أن نستثنى انقلابا عسكريا أو أمنيا. وفى كل الأحوال، لن تغير الانتخابات المقبلة، هذا إذا جرت، أى شىء لأسباب كثيرة. كل ما هنالك هو أن العمل الجاد قد يبدأ قريبا لإسقاط النظام العسكرى.