آن الأوان للمرأة المصرية أن يكون لها دور، وتقوم به».. جملة قصيرة، لكنها مشحونة بطاقة تمرد، صاغها «أحمد مراد» -الروائى الأكثر مبيعًا فى مصر، صاحب الحضور الورقى والسينمائى والإذاعي- كأنها بيان مبكّر يفصح عمّا يريد فيلم (الست) أن يقوله دون التفاف. الجملة تبدو كدعوة، أو ربما كصفعة خفيفة لمجتمع يرفض أن يرى المرأة إلا فى الهامش. وهى، بالمصادفة، المدخل الأكثر صدقًا لفهم فيلم يستلهم سيرة أيقونة الغناء العربى، «أم كلثوم». «مراد»، ومعه توأمه السينمائى «مروان حامد»، قدَّما هنا صورة مغايرة تمامًا للسردية التقليدية عن كوكب الشرق، صورة تنزع عنها القداسة المصنوعة لتعيدها إلى جوهرها: امرأة مصرية صلبة، شديدة الوعى بذاتها وبموقعها، صنعت نموذجًا نسائيا يُحتذى قبل أن تصبح صوتًا يملأ الدنيا. لكن المفارقة - والتى لا يمكن ألا تستوقفك- أن الفيلم، من حيث لا يقصد، يعيد فتح الجرح نفسه الذى أرادت «أم كلثوم» أن تداويه، فبعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيلها، تكتشف -وربما تضحك بسخرية مُرة- أن أغلب ما كانت تحلم بتغييره فى مجتمعنا لا يزال ثابتًا فى موضعه: المشكلات نفسها، العقليات نفسها، نفس العُقد الاجتماعية المحكمة، وكأن الزمان قد دار دورة كاملة ليعود إلى النقطة صفر. وهذا تحديدًا، هو الوجه المعتم الذى يلمّح إليه الفيلم بشكل غير مباشر، الوجه الذى يذكّرنا بأن ما تغيّر فعليًا أقل بكثير مما نحب أن نتوهّم. وبما أن قصة حياة «كوكب الشرق» تعد كتابًا مفتوحًا لدى الجميع، تأتى هنا صعوبة المعالجة السينمائية التى صنعها فريق عمل فيلم (الست)، فكان الخيار الأمثل هو محاولة إظهار الجانب الخفى لحياة هذه الأيقونة الغنائية الشهيرة، والتأكيد على أن كل هذا النجاح الهائل والكبير لم يأتِ من فراغ، فقطعًا دفعت «أم كلثوم» ثمنًا كبيرًا فيه، لدرجة أنها صارت وحيدة بشكل ربما لم يتخيله غالبية جمهورها، كما كشف الفيلم بكل ذكاء. من اللحظات الأولى يركز الفيلم على قوة شخصية «أم كلثوم»، فمنذ الطفولة لا تشارك الصغار فى اللعب إلا بدور السلطانة، وكل مَن حولها مجرد عبيد يحملونها فوق الأعناق. كما تتميز بعناد كبير، لدرجة أنها غنّت أمام حمار فى البرد القارس، حتى تحصل على أجرها الزهيد. استطاعت أن تتمرد على السلطة الأبوية وتخلع الملابس الذكورية فى أيامها الأولى بالعاصمة القاهرة، بعد أن تركت طماى الزهايرة الريفية، وارتدت الفستان وكشفت عن أجزاء من شعرها. كانت تدير مفاوضاتها بكل قوة وصرامة وحزم، وتعلم جيدًا قدر موهبتها، وتهدد المنتجين بعدم تكرار التعاون معهم، والذهاب إلى المنافسين فى حالة عدم تنفيذ شروطها المالية، تراجع يوميا ما تحصّلت عليه من أموال نظير غنائها، وتتابع كذلك مصير صرف الأموال، حتى لو كان من يتولى إدارة المسئولية المالية هو أقرب أقاربها، تدرك مدى نقاط الضعف لدى المقربين منها، ومن ثم تستطيع إدارة جميع مَن حولها، برضا وقبول من الجميع، دون أى شعور من أى نوع بالاستغلال، وهذا يتضح جليا فى الكثير من المشاهد التى جمعتها مع أقرب صنّاع أغانيها. تنتصر على السلطة الملكية التى حاولت أن تقهرها بحب الناس لأغانيها. وبعد أن قامت ثورة الضباط الأحرار وعَدُّوها من العهد البائد، ظلت لفترة مهمشة على غير المعتاد، وحتى بعد أن استيقظت الجمهورية على كابوس النكسة، وكان الشعب بكامله فى حالة انكسار، لدرجة أن زعيم الأمة بنفسه قرر التنحّى عن منصبه كإعلان واضح لفشله، لم تستسلم «أم كلثوم»، فقد كانت هى القائدة الشعبية الحقيقية التى حاربت بصوتها، كما يؤكد الفيلم، وتجوب محافظات مصر لدعم المجهود الحربى وإعادة إعمار مدن القناة التى دُمرت جراء العدوان الإسرائيلى. وكل هذا المجهود الأسطورى والعطاء العظيم والقيادة الحقيقية كان للغرابة فى مراحل متأخرة من عمرها، بل المرض يكاد يكون تملّك منها. فيلم (الست) شديد الوضوح فى رسالته، التى ظهرت حتى فى الإعلان التشويقى، وربما لم يلتفت أحد إلى ما كان يريد الإعلان قوله، ولماذا بالتحديد سُمّى الفيلم (الست) بألف ولام التعريف، كتعبير دقيق عن أن هذا هو النموذج الحقيقى الذى يجب أن تكون عليه المرأة المصرية العصرية، التى كتبت مقالات للرأى تشتبك فيها مع مشكلات مجتمعها بشكل واقعى، بعيدًا عن عالم الغناء الذى ربما يُغلَّف بالكثير من الخيال والتحليق. كانت تريد الترشح للانتخابات، ربما لم تفعلها بشكل نيابى وسياسى، لكنها فعلتها بشكل خدمى يخص مهنتها، حين أسست وشكّلت نقابة المهن الموسيقية. وحتى إن كانت هى صاحبة الفضل الأول فى إنشاء هذا الصرح، فإن أبناء هذه المهنة الذين يعلمون جيدًا قوتها ونبوغها وخبرتها وحنكة إدارتها، بفضل تحولها بإرادتها من فتاة ريفية تبدو ساذجة إلى أهم سيدة فى المجتمع، خير دليل على نبوغها الإدارى، لم يكونوا مقتنعين تمام الاقتناع بإعطائها أصواتهم كى تدير لهم نقابتهم. ولم تفز «أم كلثوم» إلا بفرض قوتها ونفوذها على العازفين أنفسهم وإخضاعهم لها كتأكيد على تمردها وقوتها وتفردها، لدرجة أن هذه النقابة حتى الآن لم يأتِها أى نقيب من النساء يعتلى كرسى حكم نقابة الموسيقيين فى مصر! أتخيل أن المجتمع المصرى وقتها، لو كان يعلم كل هذه الرسائل التى حاولت أن تقولها «الست» بشكل غير مباشر من خلال سيرتها «الخفية»، وتعلّم منها وفهم الغرض منها، بل عالج السلبيات التى كانت تعانيها، فلربما لم نكن نحتاج اليوم إلى التأكيد على «الكوتة» النسائية لضمان تمثيل النساء فى المجالس النيابية والإدارات النقابية فى مختلف المجالات. وبعيدًا عن السياسة، يبقى مجال الأغنية نفسها، والتى تعد «أم كلثوم» الرمز التاريخى الأهم فيه، يعانى حتى الآن، الذكوريةَ المفرطةَ، فلا يوجد لدينا كاتبات وشاعرات بالعدد الذى يوازى سيطرة الرجال، لا يوجد لدينا ملحنات شهيرات، ولا موزعات، والكثير من المغنيات تتعطل مسيراتهن بسبب عدم إدارتهن لمشروعاتهن الغنائية بالشكل الأمثل. وكأنه قد كُتب علينا ألا يكون لدينا سوى، «الست»، «أم كلثوم» وحدها، التى صنعت للمرأة المصرية الدور الأهم، واستطاعت أن تقوم به على أكمل وجه. Untitled-1_copy