أعمالها الفنية غالبا بالأبيض والأسود . وهى واقعة فى أسر تلك الازدواجية التى هى سمة مجتمعاتنا، هذا التضاد والتناقض الذى لا يعبر عنه أفضل من الثنائية الرومانتيكية الحزينة للأبيض والأسود، فاختفى تعدد الالوان من فنها غالبا، كما اختفى من شوارع إيران مما جعلها تختار المنفى الامريكى وطنا لها ....................................... حصلت المخرجة شيرين نشأت، التى ولدت فى إيران فى العام 1957، على تقدير عالمى على أفلامها الشعرية، وكذا صورها الفوتوغرافية، التى أثارت دائما الجدل إلى جانب الإعجاب بموضوعاتها، التى طرحت أسئلة حول الدين والتمييز العنصرى فى إيران ومنطقة الشرق الأوسط. وكان أول أفلامها «نساء بلا رجال» (2009) قد فاز بجائزة الأسد الفضى فى مهرجان فينيسيا. أما أهم صورها فكانت واحدة من أعمال المعرض الفوتوغرافى الذى حمل عنوان “نساء الله”، وكانت لامرأة إيرانية تحمل فى رأسها بندقية، تظهر فوهتها من تحت الحجاب. فى ذلك المعرض قدمت نشأت قضية الاستشهاد فى الثقافة الإيرانية فى فترة الثورة الإسلامية وأثرها على المجتمع. صفتان رئيستان تحكمان أعمال شيرين نشأت، التى تلقت تعليمها الجامعى بجامعة كاليفورنيا أولهما أنها لا تستطيع الهرب من المسحة السياسية التى فرضتها أصولها وحياتها فى المنفي. ومن جهة أخرى تميز فنها بأنه كان دائما مرآة عكست ثقافة الشعر والصوفية فى الحضارة الإيرانية. «الصراع بين الشعرية والسياسة».. هذا هو موضوع أعمالى بشكل عام هكذا، تقول، تقول شيرين نشأت، التى تأثرت بالفن الإيرانى التراثي، إلى جانب تأثرها بالفنانة التشكيلية المكسيكية ذائعة الصيت فريدة كاهلو. «الشعر الطريقة الأكثر تمردا للتواصل»، وهذه الثورة الجمالية تتحول إلى اللغة البصرية. أما فيلمها الثاني، ويحمل عنوان «عنيف»، فيبدأ بشاشة مقسمة إلى جزأين فى أحدهما رجل يغنى بحيوية وحماس، وفى الثانى امرأة مغطاة من الرأس للأقدام وظهرها للكاميرا.وبعد انتهاء الرجل من غنائه، يأتى دور المرأة فلايخرج منها إلا نوع من الهمهمة والعويل. هذا التكثيف والشعرية فى أسلوبها كان يدور دائما حول العلاقة الحضارية بين الرجل والمرأة، وهو فى هذا الفيلم الذى قدمته بالأبيض والأسود يطرح السؤال: كيف لامرأة أن تجد طريقها للتعبير الموسيقى بلا جمهور، فهى كامرأة ممنوعة من الغناء أمام جمهور فى إيران. تشعر شيرين بأنها لا تملك رفاهية الاختيار، كما هو الحال عند الفنانين فى الغرب ، فى أن تكون فنانة مسيسة أو لا تكون. لكنها مع ذلك لا تستسلم تماما للسياسة وحكاياتها لتحكم عملها. وهى تهرب منها إلى أعمال السيرة الذاتية، المتشجة بالشعر. بعد العمل فى التصوير الفوتوغرافى لسنوات، الذى قدمت فيه صورها بالأبيض والأسود على خلفية من الخطوط والحروف من أبيات الشعر، اكتشفت الفنانة الإيرانية فن السينما. «كانت هذه نقطة وعى وتحول بالنسبة لي. فقد انتقلت إلى عالم من الإمكانات حيث يمكن للصور أن تتحرك». ووسط حركة الصور تعالج نشأت تابوهات المجتمع الاسلامى المتمثلة فى قضايا الدين والجنس. فالفن برأيها محاولة للحفاظ على الروح الإنسانية. ومع ذلك فإن أعمال نشأت تبدو عميقة الذاتية، تفقد معناها إذا جردت من ذاتيتها. وهى دائما مدججة بالأسئلة، التى تعكس صراعها كامرأة وكفنانة إيرانية. «أنا كالبدو الرحل»، تقول شيرين نشأت عن نفسها، فهى قد ارتحلت من بلد إلى آخر ومن فن إلى آخر بحثا عن فن ووطن، وتعيد ابتكار فنها بصورة مستمرة والذى ينتمى إلى فنون المالتيميديا لهذا العصر. البحث عن أم كلثوم قبل خمس سنوات وفى القاهرة بدأت شيرين نشأت رحلة جديدة مع أم كلثوم، ذلك المشروع الفنى الذى طرحته مؤخرا كفيلم سينمائى تحت عنوان البحث عن ام كلثوم والذى تم اطلاقه على هامش مهرجان فينسيا السينمائى الذى انتهت فعالياته مؤخرا «إنها قصة لا بد أن تروي»، تقول نشأت عن سيدة الغناء العربى التى تعشقها وكانت ملهمة لها.فى عالميتهاالتى أكسبتها التأثير وحب الجماهير عبر أرجاء الأرض الأربعة «هذا الفيلم بالأساس وليد شغفى وانبهارى العميق بأم كلثوم، التى أراها ويراها الكثيرون أهم فنانى القرن العشرين فى الشرق الأوسط على الإطلاق». وكامرأة وفنانة من تلك المنطقة كان لدى فضول هائل عنها تطور إلى ما يشبه الهوس بها، وكيف أنها كانت امرأة غير تقليدية .. لم تكن جميلة، ومع ذلك كانت دائما محاطة بالرجال الذين يحبونها ويقدمون افضل ما لديهم لفنها بعد كل هذه السنوات من التفكير والبحث لعمل فيلم عن أم كلثوم تحولت الفكرة إلى فيلم عن امرأة إيرانية تحاول صنع فيلم عن أم كلثوم تلك الأيقونة الأسطورية فى عالم الغناء»، . لعبة المرايا بين بطلة الفيلم والمطربة «فى وقت ما لم يعد الفيلم مجرد سيرة ذاتية لكوكب الشرق فلم يعد ذلك اهتمامى بعد كل هذه السنوات من الانشغال بالفكرة، حيث تحول اهتمامى إلى صورة أكثر شخصية..امرأة شرق أوسطية يمزقها الصراع بين منفاها الاضطراري/الاختياري، وابنها الذى تركته مجبرة، وعلاقاتها التى انقطعت بعائلتها فى إيران كفنانة فى المنفي، مقابل فنانة أيقونة تصنع فيلما عنها، استطاعت أن تحرر نفسها من كل التقاليد التى تحكم نساء تلك المنطقة».. «بعد حوالى 40 عاما على وفاتها، لا تزال أم كلثوم محبوبة الجماهير العربية من كل نوع ولون سواء من العلمانيين أو المتدينين،من الاغنياء كما الفقراء، من المفكرين أو العمال. إنها أيقونة يجمع عليها كل غالبية شعوب المنطقة تقريبا، من مصر للبنان، ومن إيران للأردن. وقد وجدتنى بحاجة أن أعود إلى أم كلثوم لأنها تمثل لى رمزا كبيرا للسلام والتوحد. وقد أردت بفيلمى عنها أن أرسم صورة لهذا الرمز ليعرفه العالم الذى ربما لا يعرف هذه المطربة الكبيرة. يمكن للمرء أن يروى حكاية أم كلثوم بعدة طرق، ولكن مع ارتباطها المباشر بالأحداث السياسية الكبري، أعتقد أن صلاتها بالقادة والزعماء والأنظمة أساسية فى الحكاية لفهم مسيرتها كفنانة. فمثلا ، فى العشرينيات من القرن الماضى عندما تم اكتشافها، صارت مقربة جدا من الملك فاروق وبلاطه. وبعدها مع ثورة 1952، توقف بث إذاعة أغانيها على الراديو لأنها اعتبرت شديدةالولاء للفترة الملكية. وعندما اكتشف الرئيس جمال عبدالناصر ما حدث، ألغى القرار خوفا من أن يغضب المصريون منه وقال جملته الشهيرة «اذا اردتم وقف اغانى ام كلثوم فعليكم هدم الهرم». وتوطدت علاقة أم كلثوم به بعد ذلك، وصارت ما يشبه السفيرة لأجندته الاجتماعية. انتقد البعض أم كلثوم لعلاقتها بالأنظمة السياسية، كعلاقتها بناصر، ولكن فى النهاية تحولت إلى شخصية قومية عتيدة – بغض النظر عن منتقديها – بفضل قوة فنها، التى لمست الملايين وأثرت فيهم، إلى جانب أعمالها الخيرية. فبعد هزيمة مصر فى حربها عام 1967، طارت أم كلثوم لتغنى حول العالم، وتجمع المال من أجل دعم الجيش المصرى والمجهود الحربي. ولا تخفى شيرين تحيزها لأم كلثوم وهى تشير لقصة امرأة صعدت إلى الشهرة فى الثلاثينيات من القرن الماضي، ولا تزال تعد لليوم أهم فنانى الشرق الأوسط فى القرن العشرين على الإطلاق . «وأنا أيضا كفنانة من الشرق الأوسط ارتبط عملها كثيرا بالسياسة، أعتبر أم كلثوم ليست فقط ظاهرة خارقة، وإنما مصدر إلهام شخصي. فقد نجحت فى التأثير فى الجماهير ليس فقط عاطفيا وإنما سياسيا أيضا بصورة غير مسبوقة، وهو ما أتمنى أن يعبر عنه فيلمى بأسلوب فنى اخترت أن يكون أقرب للأفلام الصامتة ، وبقليل من الحوار . فقد أردت أن أقدم القصة بالصورة المرئية القوية وبالطبع بالموسيقى والغناء أيضا. أردت أن أرى إذ كان بإمكاننا فى هذا الفيلم أن نقدم للجمهور لمحة لذلك الشعور بالنشوة الذى هو ميزة أساسية فى غناء أم كلثوم وفى تلقى جمهورها لأدائها الاستثنائي. فقد كان الجمهور يتداعى طربا وانتشاء وهو يستمع إليها. ورغم أنى أشعر بقرب شديد من أم كلثوم إلا أن هذا الفيلم مثل تحديا بالنسب؛ لى لأنى للمرة الأولى أقدم شخصية لا تنتمى لثقافتى الفارسية، وإنما للثقافة العربية. وقد تم تصويره باللغة العربية التى لا أتحدثها. وقد زرت مصر عدة مرات وأجريت العديد من المقابلات استعدادا لهذا الفيلم منذ عام 2010. ومثلما قدم فيلم «نساء بلا رجال» أربع شخصيات نسائية، على خلفية طهران الخمسينيات من القرن العشرين، فإن هذا الفيلم يقدم أم كلثوم بينما تتحول مصر إلى شخصية أخرى فى الفيلم ، حيث يقدم لمحات أساسية من تاريخ مصر المعاصر من خلال أيقونتها الغنائية ومسيرتها، من 1920 وحتى 1975، فنرصد فى الفيلم ظهور الإخوان، وحكم الملك فاروق، وسقوط الاستعمار البريطاني، وعهد عبدالناصر والحرب مع إسرائيل.. ولكن بصورة فنية أكثر منها توثيقية أو تسجيلية. ومن ناحية السيرة الذاتية يركز الفيلم على تقديم أم كلثوم كشخصية كافحت طوال حياتها لتصبح تلك الأيقونة ولتبقى صورتها بعد الرحيل. لم تكشف أم كلثوم إلا القليل عن حياتها ، ولم يهتم الفيلم بتقديم تفاصيل حياتها الشخصية ، بل أراد أن «يدخل تحت جلد فنانة صعدت إلى قمة الشهرة والمجد متخطية حواجز الطبقة الاجتماعية والنوع والدين.. وأرى أن من المهم تقديم حكايتها لجمهور غربى صورة المرأة المسلمة عنده غالبا هى صورة الضحية». كما تشرح شيرين نشأت. ومن اللافت هنا أن أم كلثوم لم تتفوق فقط فى خلود فنها على منافسيها من المطربين الرجال فى مصر والشرق، بل أيضا بقيت أيقونة عظيمة فى مقابل السقوط المأساوى لفنانات الغرب الكبار مثل إديث بياف وبيلى هوليداى اللتين انتهيتا نهاية مأساوية بسبب الادمان على الكحوليات أو المخدرات. فلم يتعرض مشوار أم كلثوم لمثل تلك العثرات أبدا فظلت تعمل بجدية صارمة وظلت ناجحة حتى يوم وفاتها الذى خرج فى وداعها فيه 4 ملايين من المصريين، تدفقوا إلى ميدان التحرير لحضور جنازتها، التى كانت ثانى أكبر جنازة فى مصر بعد جنازة عبدالناصر. من الصعب أن نجد فنانا وصل إلى تلك المكانة ليس فقط فى مصر والشرق الأوسط، وفى الغرب أيضا.